"رعاية صورية".. دور أيتام تطرد أطفالها إلى الشوارع

السبت 05-11-2016 PM 02:39

دور الرعاية تطرد أبناءها - تصوير عماد عبد الهادي

لم يكن ليخطر بباله يوما أن يقتطع جزءاً من جسده ليسد رمقه بثمنه. ولم يكن هذا ليخطر ببال أسرته التي آثرت أن تدع مهمة تنشئته لدار، توسمت فيها أن توفر له مناخاً أكثر أمناً، مما يمكن أن توفره عائلة تعاني ضنك العيش.

سلمت أسرة نادر طفلها بعد أيام من ولادته عام 1990 لدار رعاية الظاهر في القاهرة لتقيه مرارة الحاجة. لكنه عندما شب أصبح مصدر إزعاج لإدارة الدار التي دفعها اعتراضه الدائم على سوء المعاملة ونوعية المأكل والمشرب للبحث عن ذويه بمحافظة المنيا، وتسليمه لهم كرها حسبما يروي نادر.

وقتها، لم يكن نادر قد تجاوز من العمر15 عاماً. وحين التقت به معدة التحقيق أخذ يروي لها كيف أنه لم يستطع المكوث طويلاً في منزل جدته العجوز الفقيرة، ففر من البيت واستقل شاحنة ضخمة لم يكن يعلم إلى أين مستقرها، إلى أن وجد نفسه بعد ساعات طوال في مكان لم يسمع به من قبل، يطلقون عليه (وادي النطرون).

كان ذلك في عام 2005. وفي وادي النطرون عمل باليومية في مجال البناء. كان يبيت في الشوارع وينتظر كل صباح في سوق العمالة أملاً في عربة تختاره بين العشرات، فيحصل في نهاية النهار على بضعة جنيهات يقتات بها. وفي ذات مساء، استوقفه شخص وأقنعه ببيع كليته مقابل مبلغ 7000 جنيه (نحو 700 دولار) لزرعها في جسد زوجته، وتمت الصفقة عام 2007.

نادر كان أول الخيط في تحقيق استقصائي استغرق إعداده عدة أشهر بعد أن قدم شكاوى عبر الخط الساخن لوزارة التضامن الاجتماعي كان آخرها  في شهر ديسمبر 2015 بغرض إنقاذ بقية أبناء الدار الذين قال إنهم طردوا منها، وتحولوا للسرقة أو العمل غير المشروع بعدما ألقت بهم دور الرعاية إلى الشوارع.

أطفال شوارع

دار رعاية الظاهر ليست حالة استثنائية، بل هي مجرد نموذج متكرر في دور أخرى يفترض أنها تحمي الأطفال من التشرد وتقيهم شرور العيش بلا عائل.. لكنها لا تجد رقيباً حاسماً يبتر المخالفات في مهدها. إذ لم تغلق هذه المؤسسة إطلاقاً.

من هذه الدور أيضاً مؤسسة بنت مصر من حي شبرا في القاهرة، ظلت بلا رقابة إلى أن ثارت ضدها حملة على مواقع تواصل اجتماعي، تحدثت عن انتهاكات وطرد واستغلال وإساءة معاملة، مما دفع وزارة التضامن الاجتماعي لإصدار قرار في الثالث من أغسطس 2016 بإغلاق المؤسسة والتي لا تزال مغلقة حتى ساعة إعداد هذا التحقيق.

وبدلاً من أن يتخرج من مؤسسات الرعاية شبان نافعون للمجتمع.. يتخرج فتية يزيدون من مشكلة أطفال الشوارع.

تلقي خط نجدة الطفل التابع للمركز القومي للأمومة والطفولة 4314 بلاغاً عام 2015، تصدر خلالها الشارع الجهات المصدرة للعنف الواقع على الأطفال بواقع 2343 بلاغاً. أما عن بلاغات انتهاكات دور الرعاية ضد الأطفال كـ (الطرد أو الضرب أو المعاملة السيئة) فعددها 385 بلاغاً. إذ يقوم خط نجدة الطفل بتحويل الحالات لدور أخرى، وإخطار وزارة التضامن بهذا التغيير. 

وفي دار الظاهر، وثقت معدة التحقيق بالصوت والصورة أربع حالات أخرى إضافة إلى حالة نادر، من أصل 22 حالة من دور مختلفة كانت لديها ذات الشكاوى، منها 18 حالة جرى توثيقها بالفيديو، وقال أصحابها إن مسؤولي الدار أجبروهم على مغادرتها قبل بلوغ السن القانونية (18 عاماً) خلافاً لقانون حماية الطفل.

حالات الأطفال by on Scribd

 

وقدم بعض المطرودين بل وعاملون في هذه الدور، أوراقاً تثبت أقوالهم منها شكاوى للشؤون الاجتماعية ووزارة التضامن كان مصيرها جميعاً الحفظ والتجاهل.

ويترتب على طرد الأطفال من الدور قبل بلوغهم السن القانونية حرمانهم من حقوقهم المادية التي يحددها قانون دور الرعاية المصري بنسبة 5% من التبرعات التي تتلقاها الدار سنوياً، إضافة إلى وحدة سكنية يوفرها بنك الإسكان والتعمير لدى بلوغهم السن، يمكن لابن الدار الانتفاع بها دون أن يتملكها. غير أن من يغادر من هؤلاء الأطفال قبل سن 18 عاماً، تظل اسماؤهم في السجلات، ومخصصاتهم في حوزة إدارة الدار وتحت تصرفها.

الطرد.. السبيل السهل

تعريف "دار الرعاية" وفقا للقانون هي "دار ايوائية تربوية تنموية قوامها الرعاية الاجتماعية تختص برعاية الأطفال المحرومين من الرعاية الأسرية من الجنسين، ونشأوا في ظروف اجتماعية قاسية تحول دون رعايتهم في أسرهم الطبيعية. ولا يوجد تصنيف لدور الرعاية في القانون، على أنها خاصة أم عامة، بل إن جميع دور الرعاية تعامل معاملة الجمعيات الأهلية، وتخضع لقانون دور الرعاية، ولوزارة التضامن الاجتماعي. وينظمها قانون الرعاية". لكن هذا التعريف النظري لا ينطبق على الواقع في بعض الأحيان.

في حديث مع معدة التحقيق، يقول جرجس (16 عاماً)، وهو أحد أبناء دار رعاية الظاهر، مستخدما اسماً مستعاراً خشية أن يلقى مصير قاصرين أصبح الشارع مأواهم "مضوني على إقرار إني لو عملت حاجة ماعجبتهمش أتطرد، ورغم إن مفيش أي حاجة عليَ، بيتلككولي علشان بعرف آخذ حقي".

من المطرودين "س" الذي قال إن مآله كان الشارع، وهو في الخامسة عشرة بدعوى أنه يدخّن، و"ب" الذي طرد وهو في عمر 16 عاماً لتشاجره مع أحد زملائه ولم يجد غير الشارع سبيلا. ولا يتضمن قانون دور الرعاية أي بند ينص على الطرد لمثل هذه الحالات. بل إنه يهدف في الأساس لتقويم السلوكيات غير القويمة.

مثل هذه الحالات وغيرها تمثل انتهاكاً صارخاً لقانون الطفل رقم 49 لسنة 2009، واللائحة التنفيذية للقانون رقم 12 لسنة 1996 المعدل بالقانون 126، وجميعها ينص على أن سن إبقاء الأبناء بدور الرعاية تمتد إلى 18 عاماً يجوز تمديدها في حالة الاستمرار في التعليم.

فدور الرعاية وفقا لنص القانون تستقبل "الأطفال من سن ست سنوات ولا يزيد عن ثمانية عشر عاماً للأبناء الذكور. ويجوز استمرار رعايتهم بالمؤسسة (كرعاية لاحقة) في حالة الالتحاق بالتعليم العالي واجتيازهم سنوات التعليم بنجاح، إلى أن يتم الانتهاء من دراستهم وإلحاقهم بالعمل، ما دامت الظروف التي أدت إلى التحاقهم بالمؤسسة ما زالت قائمة".

كما أن من أهداف مؤسسات دور الرعاية كما هو منصوص عليه في القانون "تقديم المساندة والتوجيه والمشورة لإكسابهم سلوكيات إيجابية مقبولة في المجتمع." ولم يرد في القانون ما ينص على التسريح إن أحدث الطفل المشاكل وإنما تقويمه.

الدار "بيزنس"

يقر نبيل أنيس المحاسب القانوني الذي كان مراقباً على دار الظاهر لرعاية الأيتام من قبل الكنيسة التي تقع بداخلها تلك الدار التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، حدوث حالات طرد لأطفال لم يبلغوا السن القانونية.

فسّر أنيس في لقاء موثّق بالفيديو كيفية اكتشاف تسريح أطفال من الدار قبل بلوغ السن، وقال إنه حينما كان يسأل الإدارة والعاملين بها عن أبناء لاحظ اختفاءهم كان الرد دائماً أن ذويهم قدموا واستلموهم.

ولعبت الصدفة دورها حين اكتشف مراقبون، منهم أنيس ومنهم عاملون بالدار قابلتهم الكاتبة ولم يرغبوا في إعلان اسمائهم، أن أحداً لم يتسلم هؤلاء الأطفال وأن مأواهم بات الشارع، ومنهم حالة صادفها أنيس بنفسه.

وأنيس ممنوع من دخول الدار حالياً بعد أن رفع شكاوى لقطاع الشؤون الاجتماعية، بوزارة التضامن الاجتماعي، تتهم مسؤولي الدار بسوء الإدارة. إلا أن الشكوى كان مآلها الحفظ، وتقرر استبعاد أنيس من عضوية الجمعية العمومية للدار دون أسباب قانونية، وهو ما دفعه لتقديم شكوى لإدارة الشؤون الاجتماعية التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي لم يبت فيها بعد.

ويرى أنيس في تسريح هؤلاء المراهقين وسيلة للهروب من مشكلاتهم، بعد أن شبوا وبدأوا في المطالبة بحقوقهم، كما أن التسريح يتيح للدار توفير نفقاتهم، ويقول إن المراد هو أعداد للأطفال على الورق تجني الدار من ورائها المخصصات والتبرعات التي يقدمها مواطنون أو منح من رجال أعمال أو من منظمات عالمية مختصة بحقوق الطفل. فيما تتحمل وزارة التضامن الاجتماعي المخصصات الأساسية الخاصة بالدور من مأكل ومصروفات أساسية.

 

 

 

مخالفات

كان من اللافت أن وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي ذكرت في لقاء تلفزيوني بث في 29 سبتمبر 2016 أنه يجب إغلاق 15% من دور الأيتام، لأن أصحابها يتعاملون معها كمصدر للرزق فقط. لكنها أضافت أن الوزارة تحاسب الدور المخالفة وتسحب الترخيص منها، إن تيقنت من عدم التزامها بالمعايير الموضوعة.

وكانت الوزيرة قد ذكرت في بيانات رسمية صدرت أواخر عام 2015 أن في مصر 468 دار رعاية تستوعب 4300 طفل ويلتحق بها 2274 طفلاً.

وفي لقاء تلفزيوني سابق قالت وزيرة التضامن في معرض حديثها عن أسباب ضعف الرقابة إن عين مراقب الوزارة، قد تعتاد بعض المخالفات فلا تستوقفه، كما قد تنشأ علاقات ود بين المراقبين والمسؤولين ببعض الدور، مما يجعله يغض الطرف عن بعض الانتهاكات. 

حاولت معدة التحقيق التواصل مع الوزيرة عقب اللقاء التلفزيوني الأول لكنها لم ترد على الاتصالات الهاتفية. وحاولت التواصل معها عبر تطبيق "الواتس أب" لكن أيضا بلا جدوى.

وبعد اللقاء التلفزيوني الأخير، أرسلت معدة التحقيق أسئلة للوزيرة لتوضيح الأسباب التي دفعتها للقول بضرورة إغلاق بعض الدور، وكذلك تصريحها بأن بعض دور الأيتام، يسيطر عليها هاربون من أحكام عقب ثورة 2011 وقولها إن نسبة الإشغال في عدد كبير من الدور لا تتعدى 50% لكن الكاتبة لم تتلق رداً في المحاولة الثانية أيضاً.

كما فشلت محاولات معدة التحقيق في الحصول على رد رسمي من مسؤولين في الوزارة من بينهم كمال الشريف مدير مكتب الوزيرة، ومسعد رضوان المسؤول عن إدارة دور الرعاية.

إذ رصدت وزارة التضامن الاجتماعي في العام المالي الجديد 2016 نحو 208 ملايين جنيه (23 مليون دولار) لقطاع دور الرعاية، وفقا لبيان رسمي صدر عن مسعد رضوان مساعد أول وزيرة التضامن، والمسؤول عن قطاع دور الرعاية.

براثن الجريمة

أحد المطرودين من دور الرعاية كان مصيره السجن، بعد أن احتضنه عالم الشارع وكان ضحية سهلة للوقوع في براثن الجريمة.

إنه "ج.ص" الذي لفظته دار رعاية الظاهر وهو في الخامسة عشرة من العمر لتضيف إلى قائمة المشردين والمجرمين المحتملين عضوا جديداً. وفي القضية رقم 18498 لسنة 2015 حكم عليه بالسجن خمس سنوات مع الشغل بتهمة الشروع في القتل والسرقة بالإكراه. ووثقت معدة التحقيق في الانفوجراف الانحرافات التي آل إليها تسعة فتيان بعد طردهم من دور رعاية مختلفة. 

انفوجراف يوثق انحرافات 8 من الأنباء المطرودين - تصميم عبد الوهاب رجب

وفي لقاء مع رزق بدوي رئيس مجلس إدارة الدار التي تقع داخل كنيسة مار جرجس وتتألف من طابقين يضمان عنابر كبيرة، أقر بطرد بعض أبناء الدار قبل أعوام لسوء سلوكهم، وقال إنه لا يحق لهم المطالبة بحقوق بعد كل هذه السنوات لأن منهم من التحق بدور رعاية أخرى.

وليس هناك في القانون ما يجعل مستحقات أبناء دور الرعاية تسقط بالتقادم. كما أن بدوي لم يقدم ما يثبت ما أشار إليه من التحاق بعضهم بدور أخرى.

وأتاح "ر.ب" لمعدة التحقيق الاطلاع على دفاتر توفير الأبناء. ورغم أن القانون ينص على إيداع 5% من تبرعات الدار سنوياً بدفاتر الأبناء، نفى بدوي أحقية الأبناء في تلك النسبة قائلاً إن القانون يتغير كل عام، وإنه سيسعى لإيداع ألف جنيه كل عام للأبناء بدفاترهم بدءاً من هذا العام. أما الأعوام السابقة فلم يكن هناك التزام بأي مبالغ، على حد قوله.

دفتر نادر لدى خروجه من الدار كان يحتوي على أربعة آلاف جنيه رغم أنه مكث في الدار 15 عاماً. وحين سألت كاتبة التحقيق رئيس مجلس إدارة الدار عن سبب عدم الالتزام بالنسبة المنصوص عليها في القانون قال "القانون بيتغير كل سنة ومفيش دار بتعمل كده."

ومن المفارقات أنه رغم تفاقم مشكلة أطفال الشوارع، نجد أعداد أبناء الدور تتقلص بدلاً من أن تزداد. فوفقاً للسجلات انخفض عدد نزلاء دار الظاهر من 50 طفلاً في عام 2013 إلى 30 طفلاً في 2015 ثم إلى 20 في 2016. أما الأعمار فتتراوح بين 4 سنوات و12 سنة حسبما ورد على لسان مدير الدار. وحين سئل عن أسباب تقلص الأعداد قال "الولاد بيتخرجوا ويشتغلوا." 

انتهاكات مصورة

منذ أشهر، بدأ تداول تسجيلات مصورة على وسائل التواصل الاجتماعي، تكشف تعرّض أبناء دار بنت مصر للتنمية ورعاية الأيتام لسوء معاملة، بل وانتهاكات وصلت إلى حد الضرب المبرح والطرد. وأصدرت وزارة التضامن الاجتماعي بياناً رسمياً في الثالث من أغسطس 2016 بقرار حل "مؤسسة بنت مصر للتنمية ورعاية الأيتام" المشهرة برقم 2298 لسنة 2015 بعد رصد عدد من المخالفات الفنية والإدارية والمالية. 

الوزارة ذكرت في بيان أنها شكلت لجنة عملت على مدار ستة أشهر لتتمكن من إثبات الاتهامات المنسوبة لمؤسسة بنت مصر، ويحمل البيان ما يعني ضمنياً غياب الرقابة الدورية للدار وسجلاتها إذ جاء فيه "المؤسسة لم تقم بإعداد ميزانيات منذ إشهارها عام 2012 وذلك حتى تاريخ 31 ديسمبر 2013، وبدون تسجيل بالسجلات وبدون مستندات، بالإضافة إلى عدم سداد المؤسسة الضرائب حتى تاريخ انتهاء الفحص في 28 أبريل 2016." ويعني هذا أنه لم ينتبه أحد لمخالفات وقعت منذ 2012.

وتشير تقارير الفحص إلى أن الدار عرضت الوحدات السكنية المخصصة لأبنائها للضرر باستغلالها وتأجيرها فيما يعد مخالفة للعقود الموقعة مع بنك الإسكان والتعمير الذي يوفر هذه الوحدات، كما خصصت أماكن لإيواء الأطفال بالدور التابعة لها دون الحصول على تراخيص، ودون أن تتوافر بها الاشتراطات اللازمة للإيواء والمنصوص عليها باللائحة النموذجية لمؤسسات الرعاية. 

وقالت وزارة التضامن إنها أودعت خمسة ممن طردتهم الدار بعد الحملة عليها على وسائل التواصل الاجتماعي في دور رعاية أخرى بعدما تقرر إغلاقها.

 

دور الرعاية بالجيزة

وعلى مقهى صغير بمحافظة الجيزة، تجمع عدد من المراهقين بدا عليهم إنهاك العمل. فصاحب المقهى جعله مأوى لقاصرين، كانوا نزلاء في دار الرعاية المقابلة للمقهى قبل أن يطردهم مسؤولو الدار.

مصطفى، مالك المقهى، أخذ على عاتقه مهمة مساعدة هؤلاء المشردين الصغار بعد أن لفظتهم (مؤسسة دور الرعاية) التي كانت تؤويهم.

وثقت معدة التحقيق ثماني حالات طردتهم المؤسسة، من بينهم أحمد عطا (20 عاماً)، الذي قال إن الدار طردته، وهو في السادسة عشرة من عمره، بعد أن احتج على ما وصفه باستيلاء المشرفين على مخصصاتهم من المأكل والمشرب والمصروفات، ليجد نفسه في الشارع بلا مأوى وبلا أوراق رسمية تمكنه من الالتحاق بأي عمل يعيل به نفسه.

أما محمد عبد الرازق (14 عاماً) فقد نجا من الطرد بعد أن حاولت المشرفة "ف.ح" تسريحه. قال إنه تملكه الخوف من المصير المجهول، فتوجه مع أحمد علي (15 عاماً) الذي طردته المؤسسة لقسم شرطة بولاق الدكرور لتحرير محضر، فقام أحد الضباط باصطحابه للمؤسسة مرة أخرى ومنع عملية الطرد دون توثيق الواقعة بالقسم، نظراً لعدم وجود أوراق تثبت شخصية الصغيرين.    

واستضاف مصطفى صاحب المقهى الطفلين ليلة كاملة قبل إعادة محمد للدار. 

حديث العاملين

لم يكن الأطفال المطرودون من مؤسسة دور الرعاية بالجيزة هم وحدهم من تحدث.. أيضا عاملون من الدار نفسها.

أحدهم محمد عبد الحميد الذي كان مشرفاً ليلياً بمؤسسة دار الرعاية بالجيزة قبل فصله منها بعدما تحدث لوسائل الإعلام عما يدور داخلها من مخالفات. في حديثه مع معدة التحقيق قال إن المؤسسة يفترض أنها تستوعب من 400 إلى 500 طفل، إلا أنها لا تأوي إلا نحو 130 طفلاً بدعوى إجراء تجديدات.

ويقول إنه بعد أن ساعد في الكشف عن واقعة انتشار مرض جلدي بين الأبناء، وتصوير أبناء الدار وهم ينظفونها، ونشر ذلك في الصحافة، تقرر طرد البعض تجنباً للمشاكل. 

"م.م" الموظف بذات الدار قال إن مسؤولي الدار لا يتورعون عن طرد الأطفال إدراكًا منهم أن أحدًا لن يهمه أمرهم ولن تعنيه أحوالهم. واستطرد قائلاً إن الدار تسنن الطفل بطرق ملتوية، وتملأ ملفه بوقائع شغب ملفقة، فإذا انكشف أمر الطرد تملص مسؤولوها بملفه الممتلئ بالمشكلات الوهمية. 

أما نبيل محمد يوسف مدير الجمعية المصرية العامة بالدفاع الاجتماعي والتي تتولى إدارة مؤسسة دور الرعاية بالجيزة، فبدأ الحديث في مكالمة هاتفية مسجلة بلهجة منفعلة، وقال إنه يقبل الأطفال المشردين وفاقدي الأهلية بشكل تطوعي وله الحق في أن يخرجهم في أي وقت. 

وتنص المادة الثانية من دور الرعاية على أن الفئة المستفيدة من تلك الدور، تتمثل في الأطفال مجهولي النسب والمشردين والضالين واليتامى أو ضحايا التفكك الأسري.

دار بلا عاملين

في مدينة السادس من أكتوبر، كانت المخالفات أشد وضوحاً في دار الرواد المعروفة باسم (ليلة القدر) التي أسسها الصحفيان الراحلان مصطفى أمين وعلي أمين. 

معدة التحقيق تمكنت من دخول الدار بسهولة وتصوير أحوالها بالفيديو وسط أبنائها الذين قدموا نسخة من شكاوى، تفيد بطرد 30 منهم قبل السن القانونية والاستيلاء على مستحقاتهم، ونقل ملكية وحداتهم السكنية لجمعية الطفولة السعيدة التي تتبعها الدار والمفترض أنها تكفل للأطفال تملك وحدات سكنية بعد تخرجهم.

يروي بعض أبناء الدار ومشرف وزارة التضامن الاجتماعي عليها في تسجيلات مصورة بالفيديو، أن الدار في عام 2008 طردت 30 من أبنائها القصّر. لكن المطرودين عادوا إليها مرة أخرى، واستولوا عليها بالقوة أثناء الانفلات الأمني الذي صاحب أحداث ثورة يناير 2011 وطردوا منها كافة موظفيها كما هو مسجل في نص حكم قضائي صدر عام 2012 برقم 4969.

كانت جمعية الطفولة السعيدة، قد حررت المحضر حتى تتمكن من استعادة الدار مرة أخرى، وحصلت بالفعل على قرار بالتمكين صدر برقم 449 لسنة 2012 من حيازات جنوب القاهرة، لكنها لم تتمكن من تنفيذه بسبب سيطرة أبناء الدار السابقين فعلياً عليها. وأصبحت الدار عبارة عن مبان لسكن أبنائها القدامى بل وزوجاتهم وأبنائهم دون أي رقابة من قبل وزارة التضامن الاجتماعي، رغم خضوع الدار لإشرافها حتى الآن.

وفي فبراير 2014 أصدر القضاء الإداري حكماً فاصلاً، يثبت على دار الرواد المعروفة باسم ليلة القدر المخالفات المنسوبة إليها من طرد لبعض الأبناء، مما استدعى انتخاب مجلس إدارة جديد، لكن تم الطعن على القرار في يناير 2015 ولم يبت في الأمر حتى الآن.

ولم تجد كاتبة التحقيق سبيلاً للحصول على رد من أحد المسؤولين رسمياً عن الدار إلا سعد عباس، وهو أحد أبنائها عينته وزارة التضامن الاجتماعي مشرفاً عليها ليكون حلقة وصل بينها وبين الأبناء في الداخل. 

ومن الجدير بالذكر، أن المادة 12 من قانون دور الرعاية تلزم الدور بتشغيل مشرفين بمواصفات، منها الحصول على مؤهل عال اجتماعي ونفسي وتربوي، إضافة إلى التمتع بخبرة لا تقل عن عامين في العمل الاجتماعي ناهيك عن حسن السير والسلوك. 

وأقر عباس في حوار صورته معدة التحقيق بالفيديو، بأن إدارة الدار طردت 30 من أبنائها، وهم في سن بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة، وأنهم حرموا من التعليم. وقال إن الإدارة استأجرت شقة لهم، طردهم صاحبها بعد أسبوع واحد، ثم عادوا للدار بعد ثلاث سنوات إبان أحداث 2011. 

 

المجمتع المدني

في عام 2015 وثقت المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة 20 شكوى ضد دور رعاية طردت أطفالاً قبل السن القانونية، ومن بينها دار أولادي بمنطقة المعادي، ودار ليلة القدر بالسادس من أكتوبر، ودار مكة بالهرم، وهي مؤسسة مجتمع مدني تخضع لقانون الجمعيات الأهلية وتعمل تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعي.

ويقول ممثل الشؤون القانونية بالائتلاف المصري لحقوق الطفل محمد أحمد إن بعض دور الرعاية تطرد الأبناء قبل بلوغ الثامنة عشرة، حتى لا يطالبونها بأموالهم من ودائع وتبرعات، وإن دور الرعاية تستطيع بشكل أو بآخر "تستيف" -أي تضبيط- الأوراق لإتمام العملية بشكل قانوني.

وفور رصد مثل هذه الحالات، يحرر الائتلاف محضراً بقسم الشرطة لإثبات الواقعة، ويتخذ جميع الإجراءات القانونية اللازمة لتقييد الأطفال المطرودين بدار رعاية أخرى، كما يقدم صورة من المحضر لوزارة التضامن الاجتماعي ويحرر شكوى.

وفي عام 2015 قدم الائتلاف المصري لحقوق الطفل 20 شكوى ضد 20 داراً، ولم يكن هناك حصر لعدد الأبناء الذين أودعوا دور رعاية أخرى.

وقال أحمد إن مآل الشكاوى يكون مجرد "لفت نظر" المسؤولين عن الدار.

ووسط ما تعانيه مصر من مشكلة أطفال الشوارع.. يفاقم خروج أطفال من دور الرعاية قبل الأوان من الأزمة. 

 

 

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) وبإشراف أمل نور. 

تعليقات الفيسبوك