الإيجار القديم.. آخر الحصون المغلقة أمام قوى السوق

الخميس 26-01-2017 PM 05:58

كثير من بنايات وسط المدينة بالقاهرة تعتمد على نظام الإيجار القديم- تصوير أحمد حامد

تقدم عدد من نواب البرلمان بمشروع قانون يُنهي سياسة تحكم الدولة في إيجارات المساكن والمعروفة "بالإيجار القديم"، وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي أخبارا عن موافقة البرلمان على هذا القانون في منتصف الشهر الجاري، وهو الخبر الذي نفاه البرلمان مع التأكيد على أن التعديل التشريعي لازال قيد المناقشة.

ويمثل التشريع المُقترح نهاية لسياسة السيطرة على أسعار الإيجار والتي بدأت في مصر منذ نحو 100 عام، واتجهت الدولة للتراجع الجزئي عنها قبل حوالي 20 عاما فقط، ويشكو مُلاك المساكن من إهدار نظام الإيجارات القديمة لعوائد استثماراتهم العقارية، بينما يقول المستأجرون إن إنهاء هذا النظام يعرضهم للتشرد، فما هي حجج المؤيدين والمعارضين للقانون المقترح؟

متى بدأت الدولة تتدخل في الإيجار؟

تبدأ القصة من فرنسا في صيف عام 1914، عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث قررت البلاد سن تشريع يحظر طرد المستأجرين الذين تعرضوا لويلات الحرب، أو سكان المنازل الصغيرة من بيوتهم، حتى إن عجزوا عن سداد الأجرة.

هذا القانون الذي بدأ كتشريع مؤقت مدته ثلاثة أشهر وتم مده لاحقا، يرى مؤرخون أنه كان بداية سياسة إدارة الدولة للإيجارات والتي توسعت لاحقا في أوروبا والمستعمرات الخاضعة لها.

لم تكن مصر بعيدة عن تلك التطورات، ففي نوفمبر 1921 بدأت الحكومة في مسار إدارة إيجارات المساكن مع صدور تشريع يتحكم في أسعار تلك الإيجارات لمدة خمس سنوات، وذلك بعد أن كانت الإيجارات خاضعة للقانون المدني، أي أقرب للصيغة الاستثمارية.

وسرعان ما عادت الدولة إلى الصيغة المدنية في عام 1925، لكن الظروف القاسية للحرب العالمية الثانية قادت إلى التدخل في الإيجارات من جديد، حيث صدرت أوامر عسكرية خلال الحرب تؤسس لمبدأين أساسيين في علاقة المالك بالمستأجر، الأول هو تقييد يد المالك عن زيادة الإيجار إلا بنسب محدودة.

 والثاني هو المد التلقائي للعقود، بما يضمن للمستأجر استمرار وجوده في العقار.

هذان المبدآن اللذان تم إقرارهما في ظروف الحرب الاستثنائية صارا فيما بعد أساسا لتشريع الإيجارات في مصر لعدة عقود.

فبعد صعود الضباط الأحرار للسلطة في 1952 اتجهوا إلى فرض تخفيضات جبرية على إيجارات المساكن التي لم تكن خاضعة لتدخل الدولة، ثم أصدرت الدولة لاحقا ثلاثة تشريعات تنظم إيجارات المساكن بنفس الفلسفة تقريبا في أعوام 1969 و1977 و1981.

وحرصت التشريعات الثلاثة على وضع نظام محدد للإيجارات منفصل عن آليات السوق التي تشهد فيها العقارات زيادة مطردة في الأسعار.

كما أدخل النظام الناصري مبدأ جديدا، استمر من بعده، يتعلق بحق زوجة وأبناء المستأجر في أن يرثوا عقد الإيجار بعد موت الأب، وهو ما رسخ من سياسة استمرار المستأجرين القدامى في مساكنهم.

بمرور السنوات تسببت التشريعات المتعاقبة في تجميد الإيجارات عند مستويات هزيلة.

ويسوق أحد الملاك مثالا على عوائد الإيجار القديم، في تعليق منشور على صفحة إحدى روابط الملاك بموقع فيسبوك، بقوله "أرث سبع عقارات، والحصيلة 450 جنيه، يقسمون على 46 فردا.. نصيبي 80 قرشا".

ويقدر استطلاع لهيئة المعونة الأمريكية، صدر في 2008، عن أحوال المناطق الحضرية في القاهرة الكبرى، أن 61% من المستفيدين من هذا النظام يسددون إيجارات شهرية بنحو 50 جنيها أول أقل لكل منهم.

عودة العقود المدنية

مع سياسة التحرر الاقتصادي في التسعينات بدأت الدولة في عام 1996 التراجع عن الإيجار القديم، وذلك بإصدارها تشريع يعفي المباني الجديدة من أحكام التشريعات السابقة ويجعل العلاقة الإيجارية خاضعة للقانون المدني، وهو القانون الذي يظهر أثره واضحا على توزيع نفقات الأسرة المصرية.

فبعد أن كان السكن يمثل حوالي 10% من إجمالي نفقات الأسرة وقت صدور القانون في (1995-1996)، أصبح يمثل نحو 17.50%، بحسب آخر بحوث الدخل والإنفاق الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن عام 2015.

وارتفاع نسبة تكاليف السكن من نفقات الأسرة كان نتيجة لخضوع الإيجارات لقوى السوق، وهو ما جعلها عبئا كبيرا على بعض الأسر، بحسب ما يرصده موقع أبحاث الإسكان (عشرة طوبة)، والذي يقدر أن 59.4% من الأسر مضطرة لدفع أكثر من ربع دخلها الشهري لسداد إيجارات قيمتها 800 جنيه.

وتقول مجموعة عشرة طوبة البحثية على موقعها الإلكتروني إن نشاط المضاربات في القطاع العقاري قاد إلى ارتفاع أسعارها بنسبة 19.6% سنويا خلال السنوات الثماني الماضية، وهو ما جعل من تكاليف السكن عبئا على الكثير من الأسر، في ظل نمو دخول الأفراد خلال تلك الفترة بنسبة لا تتجاوز 5.4% فقط في كل عام.

ويستهدف قانون الإيجارات الجديد، المقترح من النائبين إسماعيل نصر الدين ومعتز محمود، القضاء على آخر تدخل للدولة في تسعير الإيجارات، وذلك بإنهاء عقود الإيجار القديمة خلال عشر سنوات، أو إتاحة الفرصة للمستأجرين القدامى بترك وحداتهم بمقابل مادي بشرط ألا يزيد هذا المقابل عن 25% من قيمة الشقة، وفقا لمشروع القانون الذي تداولته مواقع إخبارية خلال الأيام الماضية.

"التشريع الجديد ينهي علاقة (إيجارية) أبدية وبمبلغ (إيجار) قليل" كما يعلق صلاح حجاب، الخبير العقاري، الذي يقول إنه شارك في إعداد تشريع مقترح للبرلمان.

ويدافع حجاب عن تقريب صيغة الإيجارات من علاقات السوق بقوله "هذا ما كان يسري قبل أن تتدخل الدولة في تحديد القيمة الإيجارية، كانت العلاقة تتم طبقا لما يرتضيه الطرفان".

 ما حجة كل من الفريقين؟

التعديل التشريعي الذي يطرحه نواب البرلمان حاليا فتح الباب مجددا للجدل حول مصير ما تبقى من الإيجارات المُسعرة من قِبل الدولة، والتي لم تعد تمثل نسبة مهيمنة على السوق، حيث يقدر استطلاع الرأي الذي أعدته هيئة المعونة الأمريكية أن 27% من أسر القاهرة الكبرى تستفيد من هذا النظام، كما يقول الاستطلاع إن 15% فقط من الشقق المغلقة التي قام برصدها كانت تخضع للإيجارات القديمة.

ويسوق مُلاك العقارات حججا متعددة للبرهنة على حقهم في تحرير العلاقة مع المستأجرين خاصة في ظل تدنى عوائد الإيجار الحالية، ويعتبر بعضهم أن الدولة هي المسؤولة عن دعم الإسكان وليس المُلاك "عفوا المالك هو الفقير.. وهل المالك المزعوم للعقار أغنى من الدولة ليدعم المستأجر"، كما يتسائل (عبد الحي) في تعليق على صفحة لرابطة تدافع عن حقوق المُلاك.

ويعتبر البعض أن الإيجار القديم معارض لمفهوم الدين عن العلاقات الإيجارية، حيث يصفه (إبراهيم) في تعليق على صفحة لرابطة المُلاك بأنه " قانون شيوعي مخالف لكل الأديان السماوية"، وفي هذا السياق يتداول المدافعون عن تحرير العلاقة الإيجارية فتوى منسوبة للشيخ نصر فريد واصل يقول فيها إن عقد الإيجار في الإسلام لابد أن يكون محدد المدة ومبنى على التراضي.

وتهاجم الدولة نظام الإيجارات القديمة في صياغتها للمذكرة الإيضاحية لقانون الإيجار الجديد بقولها إن تفاقم أزمة الإسكان كان بسبب "تعاقب النصوص الاستثنائية التي تحكم العلاقة بين المالك والمستأجر، الأمر الذي أدى إلى حرص المواطنين على الاحتفاظ بوحدات سكنية وإن تغيرت ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية أو هاجروا إلى الخارج ... وقد تزايد عدد المساكن المغلقة غير المستغلة إلى حد كبير يفوق التصور كما أعرض المُلاك عن صيانة عقارتهم المؤجرة التي احتفظ المُلاك فيها بوحدات مغلقة".

في المقابل فإن نشوء نظام الإيجارات القديمة كانت وراءه مبررات قوية، حيث تشرح دراسة صادرة عن جامعة كورنل الأمريكية بعنوان "التاريخ القصير لإدارة الإيجارات" أن خدمة الإسكان تعد من الخدمات التي لا يستطيع المواطن أن يستغني عنها في أوقات العُسرة المالية، لذا رأت الحكومات في أوقات ارتفاع مستويات التضخم والاضطراب السياسي ضرورة حماية المستأجرين حتى لا يتم تشريدهم.

وتسرد الدراسة في هذا السياق حكما مصريا صدر من إحدى المحاكم المختلطة وقت خضوع مصر للاستعمار جاء فيه أنه "يمكن للمرء ألا يشتري، أو يشتري في الغد بدلا من اليوم، ولكن لا يستطيع أن يستغني عن أن يكون لديه مكانا للعيش".

وفي ظل تفاقم أزمات الإسكان قد يكون تدخل الحكومة في الإيجارات "ضروريا لتجنب العنف وإراقة الدماء" كما تضيف الدراسة، مشيرة إلى تسبب أزمات الإسكان تاريخيا في نشوب الكثير من الاحتجاجات الشعبية.

هذا بجانب أن أسعار العقارات، التي تُقاس عليها بالتبعية قيمة الإيجار، قد لا تعبر بدقة عن قوى العرض والطلب، فقد تكون انعكاسا للمضاربات، هذا ما تخُبرنا به المذكرة التوضيحية لقانون الإيجارات الصادر في 1977، حيث تشرح الدولة إنها وضعت قواعد خاصة لتحديد الإيجارات مخالفة لأحكام السوق "وذلك تجنباً للطفرة غير الطبيعية في أسعار الأراضي التي ترجع إلى المضاربات والزيادة المصطنعة التي بدأت في الظهور منذ عام 1973".

وكانت الدولة تعُد نفسها ملتزمة بالشريعة الإسلامية وهي تصدر قانون الإيجارات القديم عام 1977، حيث قالت لجنة الإسكان والمرافق بمجلس الشعب في تقريرها عن القانون الذي أقرته "في بلادنا يجب أن يكون لنا في الشريعة الإسلامية أسوة حسنة، فالفقه الإسلامي يوازن بين حقوق المالك والمستأجر ويضع القواعد التي تحقق مصلحة أو تدفع ضرراً، وفي إطار ذلك يكون التدخل وتكون القيود".

وأشارت اللجنة في تقريرها عن القانون إلى موقف الضعف الذي يبدو عليه المستأجر أمام قوى السوق، حيث تؤكد أنه يجب "ألا تغيب عن البال تلك الطبقة كثيرة العدد ويمثلها المستأجر، التي ليس لها من ملك غير أيديها العاملة، وليس لها من مأوى إلا ما تستأجره من أملاك الغير".

جدل في برلمان 2017

وفي برلمان 2017 يظهر التباين واضحا بين النواب في قضية الإيجار القديم، فبينما صرح النائب هيثم الحريري بأن التشريع المُقترح "يُوقع ظلما شديدا على المستأجر وعلى الدولة أيضًا"، نقل موقع إخباري عن النائب هشام عمارة أن القانون الجديد "يقضي على مسار الحقد في المجتمع".

فيما حاولت النائبة مايسة عطوة أن تطرح ملامح مشروع بديل على صفحتها على فيسبوك، لا يفسخ تعاقدات الإيجار القديمة بعد عشر سنوات ولكن يرفع قيمتها تدريجيا، وينهي توريث عقود الإيجار إلا لبعض الفئات مثل المطلقات والقُصر، كما يقضي بحرمان المستأجرين من عقاراتهم إذا ثبت أن لديهم شققا أخرى.

"هيمنة الإيجارات الجديدة على السوق العقاري ستدفع المزيد من المواطنين إلى مستويات دخل أدنى" كما يقول أحمد زعزع، الباحث والمصمم العمراني.

ويوضح زعزع أنه في حال إلغاء الإيجارات القديمة لن تقتصر أعباء الأسر محدودة الدخل فقط على قيمة الإيجار الجديد ولكن هذه الأسر ستضطر إلى الانتقال لأطراف القاهرة، وهو ما سيحملها تكاليف يومية أكبر للذهاب إلى العمل أو الأسواق أو المدارس، وستعاني من تدني جودة الحياة لأن الإسكان المتاح وفقا لقدراتها المادية غالبا ما سيكون إسكانا غير رسمي والمعروف بالعشوائيات.

ولا ينفي حجاب الذي يؤيد تعديل نظام الإيجار القديم أن توفير السكن بالإيجار أنسب للمصريين من توفيره من خلال التمليك، ولكنه يرى أن إتاحة المساكن المناسبة لمحدودي الدخل تكون من خلال سياسات مثل تقديم الحوافز الاستثمارية لمستثمري العقارات، التي تشجعهم على بناء الإسكان المتوسط المقدم بنظام الإيجار.  

وإن كان الحديث عن توفير حوافز الاستثمار يبدو هو الأكثر عصرية من تدخل الدولة المباشر في الإيجارات، فإن فرنسا التي بدأت نظام التحكم في الإيجار عادت إليه مؤخرا مع وصول الرئيس اليساري النزعة فرنسوا أولوند إلى الحكم، وتزايد أعباء المعيشة على المواطنين.

حيث بدأت فرنسا في الصيف قبل الماضي في وضع سقف على أسعار إيجارات المساكن في العاصمة باريس، وهو القانون الذي أثار انتقادات واسعة من ملاك العقارات.

 

تعليقات الفيسبوك