أيمن الصياد
أيمن الصياد

جريمة 25 يناير .. والذين شاركوا فيها

الأحد 29-01-2017 | PM 03:43

بغض النظر عن كل الحقائق المعروفة «أو الغائبة»، وعن الخلاف الموضوعي أو اللاموضوعي حول الأسئلة ذات الصلة بالحدث الأهم في تاريخ مصر الحديث، يبقى السؤال الذي لا خلاف حول إجابته: «عن ماذا كان يبحث الناس الذين نزلوا إلى الشارع في تلك الأيام قبل سنوات ست»؟

في دولة، تعادي الحقيقة، وتحاصر الباحثين عنها، ويتراجع ترتيبها على مؤشر الشفافية كل عام عن العام الذي سبقه، لن نعرف أبدا (الآن على الأقل) كثيرا من التفاصيل التي جرت في مصر، أو بالأحرى خلف أبوابها المغلقة في أيام «الميدان» الثمانية عشرة، في مثل تلك الأيام من عام ٢٠١١. كما ربما تظل إلى ما شاء الله كثير من علامات الاستفهام معلقة في سماء لبدتها غيوم الشك والنسيان: من قبيل السؤال الأشهر: من قتل المتظاهرين؟ أو ذلك الأقل شهرة (وربما الأكثر دلالة): من حاول اغتيال اللواء عمر سليمان في الثلاثين من يناير ٢٠١١ (وهو من هو في تلك الأيام) إن كانت الحادثة التي رواها لنا السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية أيامها قد حدثت بالفعل؟ وغير ذلك من الأسئلة التي ستصبح محاولة الإجابة عنها، مهما استندت إلى قرائن أو أدلة رجما بالغيب على أحسن الأحوال، أو محلا للتشكيك في معظم الأحوال. 

ربما نعرف، أو تقول لنا الدراسات التاريخية والاجتماعية حول التجارب المشابهة كيف نجحت «الثورة المضادة» ليس فقط في أن تجهض «ثورة الناس»، بل وأن تجعل هؤلاء الناس يستنكرون ما قاموا هم أنفسهم به، يوم خرجوا إلى الشوارع مطالبين بالتغيير، أو يوم خرجوا يحتفلون بإسقاط رئيس حكمهم ثلاثة عقود.

وربما نعرف، أو يمكننا أن نتكهن بلماذا خرج اللواء (الرئيس حاليا) عبدالفتاح السيسي، في الأيام الأولى من فبراير ٢٠١١ ليلتقط صورة تذكارية مع من أسمتهم البيانات الرسمية  وقتها «شباب الثورة»، رغم أنهم أنفسهم الذين أصبحوا بعد أن أصبح اللواء «الرئيس» متهمين بالعمالة والخيانة والمسؤولية عن المؤامرة.

وربما نعرف، وكتبنا عن كيف تباينت نظرة كل اللاعبين الرئيسيين يومها؛ ثوارا، وإخوانا، ومجلس عسكري إلى تلك اللحظة الفارقة من مساء الحادي عشر من فبراير. 

ثم، وبغض النظر عن ما كنا نعرفه، «أو لا نعرفه» .. أو بتنا نعرفه، بعد أن أكدته الوقائع والأحداث.

كما وبغض النظر عن نقاشات أكاديمية «مهمة» تحت عنوان What's going wrong سواء تفهمت تغييرات جذرية في ديناميات الحراك الاجتماعي في قرن «انترنتي» جديد، أو توقفت عند ما تعلمته من أنماط كلاسيكية لثورات القرنين التاسع عشر والعشرين.  

وبغض النظر عن مراجعات؛ سواء كانت واجبة أو جلدا للذات. من الشباب الذين ثاروا، أو من فصائل سياسية حاولت «تأميم الثورة» فأضاعتها، وأضاعتنا.

وبغض النظر عن هيستيريا إعلامية «موجهة» ضاعت معها الحقائق، فانجرف بعضنا بحسن نية أو بغيرها لتبني نظرية «المؤامرة». 

وبغض النظر عن أنه في الوقت الذي كان فيه الرئيس يخطب فينا «احتفالا بالثورة»، كانت أجهزة الأمن تلقي القبض على سبعة عشر شابا تجرّؤوا ففكروا في «الاحتفال»! 

بغض النظر عن كل تلك الحقائق المعروفة «أو الغائبة»، وعن الخلاف الموضوعي أو اللاموضوعي حول  الأسئلة ذات الصلة بالحدث الأهم في تاريخ مصر الحديث، يبقى السؤال الذي لا خلاف حول إجابته: «عن ماذا كان يبحث الناس الذين نزلوا إلى الشارع في تلك الأيام قبل سنوات ست»؟ 

ربما يكون من بعض الحكمة أن نعود إلى الصور، ومشاهد الفيديو، ثم نقلب في أوراقنا لنتذكر… «فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»

«الشعبُ يريد إسقاط النظام»؛ عبارة من أربع كلمات لا أكثر؛ جامعة مانعة كما يقول المناطقة. لخص بها الشعب مطلبه يومها متجاوزا ما ظنه البعض مجرد الإطاحة بالرئيس، أو ما تمناه البعض مجرد إقصاء للوريث «القادم من خارج المؤسسة». كما أنها لم تعن أبدا ما يلوكه المغَيِّبون أو المغَيَّبون من «إسقاط للدولة». فالنظام، تعريفا، والذي أراد الناس إسقاطه يومها هو منظومة العلاقات «الفعلية لا الدستورية» بين عناصره؛ حاكما، وأجهزة، ومواطنين. والمسؤولة عن تعثر مجتمع ودولةٍ أراد الجيلُ الجديد من أبنائها أن يضعها على الطريق إلى عصرٍ جديد، ومستقبلٍ تستحقه.  

النظام الذي طالب الناس وقتها بإسقاطه، هو ذلك الذي نبهنا يومها (وجهات نظر: فبراير ٢٠١١) إلى أنه سيستفيد من حمق معاركنا الصغيرة ليعود. وهو النظام الذي كان بعض ما وصفناه به يومها أنه ذلك الذي يصبح فيه الخوف، ومن ثم «نفاق السلطة» أيا ما كانت هذه السلطة؛ الأداة الوحيدة للحفاظ على المكان.. أو للفوز بالمكانة. يتساوى في ذلك وزراءٌ وخفراء، ورجالُ دين وسياسة وفكر.. ليبدو الأمر كله في نهاية المطاف «ثقافة شعب» أو بالأحرى «ثقافة حاكمة».

النظامُ الذي طالب الناس يومها بإسقاطه هو ذلك النظام الذي لا يدرك أن «السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة». مهما تزينت تلك السلطة «المطلقة» بشعارات دينية أو وطنية. ومهما زين لها المنافقون أن المصلحة الوطنية تقتضي أن تصبح «القوة فوق العدل».

النظام الذي يقوم على شبكة مصالح مترابطة بين السلطة والمال وأصحاب القدرة على البطش الأمني، ويقوم على «توريث» فج للمناصب والنفوذ. وشراء حقيقي للذمم والضمائر.. والأرض.

النظام الذي لا يدرك أن الصمت وإن أراحه، فهو يترك أمراض السلطة الأوليجاركية «ثلاثية المفعول» تسري في هدوء مميت، فلا يفيق إلا وقد انهارت أساساته، فيسقط على من فيه؛ دولة فاشلة لا مكان لها في العصر الحديث.

هو النظام الذي وقفت ضده، لسنوات حركة «كفاية» النخبوية، و«٦ إبريل» الشبابية، و«٩ مارس» المطالبة باستقلال الجامعات والحريات الأكاديمية. فضلا عن «نادي القضاة» الذي ناضل لعقود مطالبا بقانون يوفراستقلالا «حقيقيا» للقضاء يضمن عدلا حقيقيا للمواطنين. 

هو النظامُ الذي كان يعصف بالقانون، فأصبح يتعسف في استخدام ما تسمح به نصوص القانون.

النظامُ الذي كان قمعيا، فأصبح يقنن القمع وينجح في أن يصفق له المقموعون.

نظامٌ لا يعنيه أن يكون استقلال القضاء استقلالا حقيقيا، يشعر به الناس ميزانا لا يهتز وعدالة عمياء. نظامٌ لم يكترث القائمون عليه يوما لخطورة أن يتعمق لدى المواطن شعورٌ باليأس من اللجوء إلى التقاضي «سبيلا سلميا لحل المنازعات». غير مدرك أن فقدان الثقة في القضاء، إذا حدث يصبحُ الأمن الاجتماعي مهددا. كما يصبح مفهومُ الدولة ذاته في خطر.

النظام الذي لم يقرأ عن ابن خلدون أن «الظلم منذر بخراب العمران»، ثم بات لا يدرك خطورة أن يكون هناكآلاف من المظلومين، أو خطورة أن تجعل ظهر هذا أو ذاك إلى الحائط، أو ماذا يمكن أن تقود إليه إجراءات أمنية ظالمة أو عقيمة بشاب أضاعت مستقبله مثل تلك الإجراءات، ثم نتيجة ذلك كله على أمن الوطن والمجتمع.

النظامُ الذي طالب الناس يومها بإسقاطه، بحثا عن «دولة الدستور والقانون»، هو ذلك النظام الذي يقوم على «التحريات الأمنية» التي قد تخطئ أو تصيب. وتتحكم فيه تقارير الأمن في كل شيء، من تعيين السعاة في المكاتب، وحتى اختيار العاملين في معامل الجامعات. هو النظام الذي كان يسمح بأن يحدث مثل ما حدث مع خالد سعيد وسيد بلال، ثم بات يسمح بأن يحدث ذلك مع كثيرين مثلهما بتنا لا نعرفهم من كثرة الأسماء.

نظام لا يكون فيه «المواطنون أمام الدولة والقانون سواء» رغم أنف الدستور، فيحرم شابا من وظيفة «يستحقها» لأن تقارير «أمنية» أشارت إلى أنه سلفي أو شيوعي أو شيعي أو بهائي أو مقتنع «بأفكار» الإخوان المسلمين. كما يحرم آخر، رغم تفوقه من «الوظيفة المرموقة» لا لسبب إلا أنه «مسيحي» أو ينتمي إلى طبقة اجتماعية «مكافحة».

النظام الذي يضطر فيه الناس إلى تجنب كثيرا من الحديث الهاتفي، حتى الشخصي مع عائلاتهم خشية أن يسمعها أو يقرأها العامة غدا «مستلة من سياقها» على هذه القناة أو تلك الصحيفة.

النظام الذي تقوم ثقافته على «سلطان السلطة، ورهبة المرءوسين»، وهي ثنائية لا تدانيها في تعبيد الطريق نحو الفساد والدولة الفاشلة، غير الثنائية «المطلقة» للسمع والطاعة.

النظام الذي لم يقرأ في كتب التاريخ أن لا عدو للفساد غير الشفافية، وأن الفساد، الذي يفقر الناس، ويهدم الدول لا يترعرع إلا فى ظلام دولة أمنية قمعية، تروج فيها ثقافة أن «السلامة في الصمت»، وتلجأ فيها السلطة إلى أن «تضرب المربوط.. فتخاف السائبة» كما يقول المصريون في أمثالهم.

النظام الذي لا يحب ثقافة التفكير النقدي Critical Thinking، والذي قد يعلم الناس المعارضة، فتشيع فيه بدلا من ذلك ثقافة السمع والطاعة والتلقين والاتباع؛ تُربةً خصبة لثقافة مريضة تدفع هذا أو ذاك إلى أن يظن أن طريق الجنة يمر بتفجير يستهدف أبرياء.

النظام الذي ينسى بأن «لا دولة قوية بلا معارضة حقيقية قوية»، فيضيق صدره بسؤال «مهذب» من الراحل النبيل محمد السيد سعيد (معرض الكتاب ٢٠٠٥٥)، ثم بانتقاد «على استحياء» من هذا الإعلامي أو ذاك (٢٠١٥). ثم لا يتردد (أيا ما كانت التفاصيل التاريخية أو القانونية) في أن يطلب من المصريين «ألا يتحدثوا ثانية» في مدى شرعية ما جرى بشأن الجزيرتين. 

النظام الذي حال يوما بين طارق البشري وبين رئاسة مجلس الدولة لتجرؤه على الحكم «بصحيح القانون» بما لم يعجب دوائر حاكمة يومها، ثم بات لا يتحرج من تعديل القانون ليخرج هذا القاضي من منصبه، أو ليحول بين ذاك القاضي وبين منصب يقترب منه، لا لشيء إلا لأن هذا اقترب من تخوم «سيادية»، متهما ممارسات بعض عامليها بعدم الشفافية، أو لأن ذاك (كما يتردد) أصدر حكما بأحقية المصريين في أرضهم.

هذا باختصار، بعض ما طالب، أو حلم به الناس يوم نزلوا إلى «الميدان» في تلك الأيام المشهودة قبل ست سنوات، مرتكبين جريمة «الثورة / المؤامرة». ثم كان لأسباب لا مجال هنا لتفصيلها، أن لم يتحقق الحلم، ولم تحقق «الجريمة» التي شاركنا فيها جميعا أهدافها. بل على العكس، وجد فيها «السلطويون» بحكم ثقافتهم، والانتهازيون بحكم وضاعتهم فرصة ذهبية للعودة بِنَا عقودا إلى الوراء؛ دولة لا تعرف «العدل» والمساواة طريقا للأمن والاستقرار، ولا تعرف الحرية، والشفافية سبيلا لمكافحة الفساد، ولا تعرف كيف أن «كرامة» المواطن هي العنوان الوحيد لكرامة الوطن. أما الحالمون «الذين اقترفوا الإثم» قبل سنوات ست، فمنهم من فقد حياته تحت جنزير مصفحة أو برصاصة حية، ومنهم من فقد عينه بخرطوش أو رصاصة مطاطية، ومنهم من فقد مستقبله خلف القضبان، أو خلف الحدود بلا وطن، ومنهم من فقد حلمه، بعد أن رأى كل ذلك فكفر بهذا البلد. 

………

ربما نسي الناس كل ذلك، وربما نسوا أيضا ليس فقط صورة الرئيس التذكارية، بل وكيف ــ يومها أيضا ــ رفع أحد أعضاء المجلس العسكري يده بالتحية العسكرية لشهداء «الثورة» قبل أن يبدأ تلاوة البيان الثالث (١١ فبراير ٢٠١١). لا بأس، فبعض الكتب لا تقرأ من عناوينها بل بما انتهت إليه سطورها الأخيرة.   

***

فلتلعنوا إذن هذا اليوم ما شئتم. أو ما شاء لكم الطبالون والمشوهون وباعة الورقات الثلاث. 

فلتلعنوا هذا اليوم ما شئتم. أو ما شاءت لكم الآلة الإعلامية الجبارة الغاسلة للعقول، الملوثة لنقاء الفكر والنفوس.

ولتعاقبوا أصحاب هذا اليوم، أو من دعوا إليه؛ سجنا، ونفيا، وتشويها، وتشريدا، وتخويفا، وقطعا للأرزاق، ومنعا من السفر، ورجما بكل ما طالته أيديكم من حجارة واتهام. ولكن لا تنسوا لماذا لبيتم (أنتم) لا غيركم دعوتهم للنزول للشوارع في تلك الأيام مطالبين بإسقاط النظام، أو محتفلين بيوم تصورتم فيه «مخدوعين» أنه سقط. مفتونين بمشهد القائد العسكري الكبير يرفع يده بالتحية العسكرية لأولئك الشهداء الذين لا يخجل إعلام دولتكم اليوم أن يلطخ (بكل خسة ودناءة) نقاء ما فعلوا بكل ما تيسر له من اتهام 

فلتلعنوا هذا اليوم ما شئتم، ولتنسوا أو تتناسوا كل من فقدوا حياتهم، أو فقدوا أعينهم في «الميدان»، من أجلكم أنتم، ومن أجل أبنائكم، أو بالأحرى من أجل مستقبل تصوروا أن هذا الوطن «مصر» يستحقه. 

فلتلعنوا هذا اليوم ما شئتم، ولكن تذكروا عن ماذَا كان يبحث الذين طالبوا «بإسقاط النظام» لا الدولة. والذين لخصوا أحلامهم، أو ملامح دولتهم في عبارة شديدة الوضوح والبساطة: «عيش .. حرية .. كرامة إنسانية .. عدالة إجتماعية». 

 

***

وبعد..

فكما تعلمنا من أهل القانون: لا تكتمل أركان أي جريمة تعريفا إلا بتوافر القصد الجنائي، وهو في حالة جريمة «الخامس والعشرين من يناير» ما ورد تفصيله في السطور عاليه. وإذ من الثابت أن «القصد» المذكور كان قد توفر عند أولئك الذين نزلوا إلى «الميدان» في تلك الأيام قبل سنوات ست، فقد ثبتت بحقهم جريمة الحلم مع سبق الإصرار والترصد. كما ثبت بحقهم "الاعتراف" علانية بما سعوا من أجله، واجتمعت عليه إرادتهم جميعا؛ رجالا ونساءً، مسلمين ومسيحيين، أغنياء وفقراء، شبابا وكهولا وشيوخا يجرون بالكاد أقدامهم. معترفين بأهدافهم، هاتفين بأعلى الصوت، على مدى الأيام الثمانية عشرة: «عيش .. حرية .. كرامة إنسانية .. عدالة اجتماعية». 

وحتى تمضي «الفانتازيا» إلى نهايتها (وما أكثر ما صار في واقعنا من «فانتازيا») دعونا نقرر أن لدينا إشكالية قانونية تتلخص في حقيقة أن الجريمة السابق تبيانها لم تقع (حتى الآن على الأقل). إذ فشل "المتهمون بـ ٢٥ يناير» أن يحققوا ما خرجوا من أجله، لذا توجب الحكم «ببراءتهم» .. وتوجب أن يحكم التاريخ أن «الثورة مستمرة».   

تعليقات الفيسبوك