دنيا سالم
دنيا سالم

كرسي من حقي

السبت 14-01-2017 | PM 10:20

أقدامهم تدب على سلالم الدرج مندفعين كمطر ينهمر دون رحمة.. تدهس وتصدم كل ما يقابلها تجاوبا مع نداء صفارات مترو الأنفاق التي تنذر بقرب غلق الأبواب.

أشدهم قوة كانت سيدة خمسينية تتحرك يداها في كل اتجاه، محاولة إفساح الطريق أمامها لعلها تنجو من طوفان المعركة المعتادة يوميا.

بأقصى سرعة تهرول نفس السيدة تجاه عربة المترو في حين تتعالى أنفاسها بصفير مزعج، وعندما أوشكت على تخطي بوابة حلبة السباق أمسكت بطرف جلبابها المهلهل بينما تنشغل أصابع يدها الأخرى في الاشتباك بحقيبة ممتلئة بالخضروات والأطعمة.

وفي غمار كل ذلك، تتعلق عينها بكراسي عربة المترو الفارغة حتى تمكنت من اصطياد أحدها، جلست بعد تنهيدة طويلة تبعتها ابتسامة رضا وامتنان بالغنيمة العظيمة.

أراك عزيزي القارىء تعقد حاجبيك في اندهاش ولكن دعني أطفيء تعجبك وفضولك.. مقعد مترو الأنفاق هذه المساحة التي لا تتعدى نصف المتر.. يمثل لراكبي عربة المترو أكثر من مجرد مقعد بلاستيك غير مريح تجلس عليه قليلا، بعدما تحملت مشاق الوقوف أمامه تتملى فيه متخيلا لحظة الجلوس والامتلاك.

وداخل عربة المترو، وبالتحديد الخاصة بالسيدات، هذه المساحة هي حق مكتسب لأغلبهن يعوضن بها فقدان المزيد من حقوقهن المهدرة، لحظة انسحاب السيدة من مقعدها تقابلها لحظة فوز عظيم لسيدة أخرى بنفس المقعد تظهر مراسمه في ابتسامة عريضة تملأ الوجه، ونظرة متفحصة لكافة المحيطين بها يغلب عليها الزهو والفخر وكأنها تذيع بنظراتها نبأ هاما "انظروا ها أنا قد امتلكت كرسيا أنتم مازلتم تحلمون به، امتلكت ما لا تستطيعون الحصول عليه حتى هذه اللحظة".

هذه السيدة المحظوظة لا ينتهي طموحها عند ذلك الحد بل تتطلع لتوثيق ملكيتها للمقعد وذلك عبر تحكمها في تسليمه إلى من تختاره هي من السيدات المنهكات ممن تعبت أعينهن تعلقا بما يقابلهن من كراسي ممتلئة بالركاب، ينتظرن خلو مقعد ينهي ماّساة إجهادهن.

السيدة الفائزة تبحث بين جميع السيدات متجاهلة عن عمد السيدة التي تقف أمامها مباشرة صاحبة الحق الأصلي في المقعد والتي خدعتها نظرات السيدة الفائزة فخيل لها أنها ستغادر قريبا، فنفضت عن جسدها مشقة الانتظار في تنهيدة طويلة وعينين لامعتين تحيط نظراتهما السيدة الفائزة للانقضاض على الكرسي فور لحظة المغادرة خشية من لصوص المقاعد.

السيدة الفائزة ما زالت تبحث وتحك بيديها على جلبابها الأسود الذي بهت لونه من حرارة الشمس وهنا تكون معايير اختيار الوريث الجديد مختلفة طبقا لشخصية كل مالك، فهناك من تبحث عن سيدة حامل أو سيدة مسنة كي تبدو أما المحيطين وأمام ذاتها أنها لديها قدر كبير من الإنسانية، وإن لم تجد مواصفاتها فتتعمد اختيار أي من النساء عشوائيا وكأنها التقطت فيها ملامح الإجهاد على ألا تكون من بينهن تلك السيدة التي تقابلها رغم أنها صاحبة الحق المشروع في امتلاك المقعد بصفتها أقرب النساء إليه.

وانتهت رحلة اختيار الفائزة الجديدة بالمقعد بإشارة من السيدة بيديها، وتأتي الفائزة وهي في غاية الدهشة بعدما فقدت الأمل في امتلاك مقعد وسط زحمة الركاب التي دفعتها عنوة نحو منافذ خروج العربة، بينما انهارت احلام السيدة صاحبة حق الجلوس، استسلمت للوضع وتحركت بعيدا عن المقعد، حتى ذهبت بها قدماها نحو أبواب العربة.

أما السيدة الفائزة الأولى، بعد أن أنهت مهمتها، انطلقت من عربة المترو كالطاووس، فهي استطاعت بيع نصيبها في ممتلك عام حتى ولو بدون مقابل مادي.

هذه السيدة هي نموذج لكثير غيرها اعتادوا دوما على الحرمان من التمتع بأية مكاسب من هذه النوعية أو التحكم وإبداء آرائهم في ممتلكات وقضايا دولتهم. معركة المصري مع مقعد المترو قد تتعدد أشكالها في مظاهر أخرى تعكس جميعها أن المواطن مهما انخفض مستواه الاجتماعي والثقافي والتعليمي فهو على علم بحقوقه ويستوعب فقدانها فإذا هدأ سطح البحر فالقاع مليء بالمعارك.

تعليقات الفيسبوك