أيمن الصياد
أيمن الصياد

ما جرى في نيويورك ..

الأحد 25-12-2016 | PM 12:55

٢٣ ديسمبر ١٩٥٦

٢٣ ديسمبر ٢٠١٦

ستون عاما بالضبط بين التاريخين .. ولكن يظل صادما أن في اليوم ذاته الذي «يستدعي» فيه المصريون ذكرى انتصارهم على العدوان الثلاثي الذي كانت «إسرائيل» لا غيرها عُرابه، تأتيالأخبار لنا بما جرى في مجلس الأمن مما بات في هذا العالم المفتوح معروفة أدق تفاصيله. 

تغريدة «للجيروزاليم بوست» عصر الخميس، كانت أول من نقل الخبر. حاولت ألا أصدق في البداية ما ذكرته من تفاصيل سحب مصر مشروع قرار يدين توسع إسرائيل في بناء المستوطنات في الأرض العربية المحتلة، (مما يحول عمليا دون حل الدولتين)، وذلك قبل ساعات فقط من التصويت عليه. تمنيت ألا يكون الخبر «الصادم» صحيحا، وتمنيت في «تغريدة» أن نقرأ بيانا رسميا مصريا يكشف «زيف ما قالت به الصحيفة الإسرائيلية» إلا أن البيان «الرسمي» المصري، الذي تأخر حتى ظهر الجمعة، ولم ينف «جوهر الخبر»، كان قد سبقه حديث تواتر في وسائل إعلام عالمية عدة عن أن سحب المصريين لمشروع القرار جاء بطلب من ترامب «الصديق» بعد اتصال من نتنياهو «الـ ؟» وذلك بعد أن بدا أن إدارة أوباما «الذاهبة» لن تقف ضد القرار الذي ــ للمرة الأولى ــ يطالب إسرائيل بإيقاف بناء المستوطنات في الأراضى الفلسطينية المحتلة.. ويصفها «بغير الشرعية».

***

بغض النظر عن تهافت تبريرات وحكايات لإعلاميين ومتحدثين رسميين، فالتفاصيل المجردة لما جرى في نيويورك (وهي موثقة بالمناسبة) هي كالآتي بالضبط:

أن القرار الأول من نوعه الذي يعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد ١٩٦٧ «انتهاكا للقانون الدولي» كانت قد وضعت مسودته فلسطين (الدولة غير العضو في الأمم المتحدة a non-member observer state) ولأنها بحكم صفتها القانونية تلك، لاتملك تقديمه بنفسها إلى مجلس الأمن، فكان كما جرت العادة أن أنابت عنها الدولة العربية «الوحيدة» الممثلة في المجلس في تلك الدورة (مصر). وهو ما جرى بالفعل، حيث وضع القرار بصيغته النهائية أمام المجلس was put in blue by Egypt  مساء الأربعاء ٢١ ديسمبر (بتوقيت نيويورك)، حيث تقرر «رسميا» أن يجري التصويت عليه عصر الخميس ٢٢ ديسمبر، إلا أن مصر قامت صباح الخميس بطلب تأجيل التصويت  (قبل ساعات من إجرائه)، ثم بادرت صباح الجمعة ٢٣ ديسمبر بسحب مشروع القرار withdrew the text in blue فيما بدا وكأنه إغلاق (ولو مؤقت) للملف برمته.

على الناحية الأخرى، كانت أربع دول «غير عربية» أعضاء في مجلس الأمن هي نيوزيلاندا، والسنغال، وماليزيا، وفنزويلا قد قررت أن المشروع  ذاته لابد أن يأخذ طريقه للتصويت، وطلبت من سكرتارية المجلس إعادة توزيعه in blue وتحديد موعد للتصويت. وهو ما تم بالفعل عصر الجمعة ٢٣ ديسمبر ليصدر القرار بالأغلبية، بعد أن سمحت إدارة أوباما بتمريره، ضاربة عرض الحائط بمناشدات بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب (الرئيس القادم). وليصبح لدينا للمرة الأولى قرار من مجلس الأمن (يحمل رقم ٢٣٣٤) يسمح بإنهاء مشكلة المستوطنات؛ العقبة الكؤود أمام واقعية «حل الدولتين» والذي أصبح مع الإصرار الإسرائيلي على تغيير الواقع على الأرض بالتوسع في تلك المستوطنات، ليس أكثر من «عبارة مزمنة» في البيانات الرسمية للساسة والدبلوماسيين.

في التفاصيل «النيويوركية» أيضا أن النص الذي وضعه الفلسطينيون، وتم اعتماده الجمعة كان جرى التشاور بشأنه فعلا بين الدول الأعضاء. بل وتقول أجندة مجلس الأمن أن اجتماعين غير رسميين informal meetings عقدا هذا الشهر (يومي ١٣ و٢٠ ديسمبر) لهذا الغرض بمبادرة من نيوزيلاندا، وتحديدا لمناقشة ما يمكن أن يتخذه المجلس بهذا الخصوص قبل أن تنتهي السنة ٢٠١٦ وكان بين الدول الأعضاء من أعرب عن رغبته في أن يرى مثل هذا القرار قبل تنتهي عضويته في المجلس بنهاية العام. (وربما قبل أن يتسلم ترامب مهامه رسميا في العشرين من يناير القادم) 

في التفاصيل أيضا أن نيوزيلاندا كانت، ولأشهر عدة قد أجرت مشاورات مكثفة مع الولايات المتحدة وأعضاء آخرين حول مشروع قرار «منفصل» يستهدف إحياء «حل الدولتين»، ويبدو أنها أدركت، أن لا واقعية لمثل هذا القرار دون اعتماد القرار الفلسطيني الخاص بالمستوطنات أولا. ثم يبدو أن «تلكؤا عربيا» في تحريك الأمر، دفع النيوزيلنديون الذين تنتهي عضويتهم في المجلس بنهاية العام إلى الإمساك بزمام المبادرة

***

هل تستحق مسألة «المستوطنات» كل هذه الضجة، وكل هذا الجدل؟

الإجابة قاطعة من الناحية الديموجرافية والجيوبوليتية: نعم. إذ يبقى السؤال الرئيس: كيف يمكن الحديث «واقعيا» عن حل الدولتين، مع الإقرار بحقيقة أن المستوطنات الإسرائيلية التي يجري التوسع فيها باطراد كادت أن تتجاوز في ما تستقطعه من مساحة ما بقي من أراض صالحة للعيش في المناطق المحتلة. وعلى أي أراض إذن يمكن إقامة «دولة فلسطينية» بعد أن تم تمزيق الأرض على هذا النحو.

 تلك الحقيقة البسيطة والمنطقية والمجردة، كانت العنوان الرئيس لحملات المقاطعة الأوروبية الشعبيةالمتكررة، كما كانت وراء الصدام المستمر بين أوباما (الرئيس الأمريكي الذاهب) وبين نتنياهو (الذي لم يتردد أبدا في التمسك بسياساته الاستيطانية) على الرغم من حديثه المعسول عن السلام والقبول بحل الدولتين، واتهام الفلسطينيين بأنهم هم الذين يعرقلون الطريق إلى الحل. 

«لا صهيونية بدون استيطان.. ولا دولة يهودية خالصة بدون تهجير العرب، ومصادرة الأراضي وتسييجها».. العبارة التي ذكّرنا بها تقرير رسمي فلسطيني صادر قبل عامين هي لعضو كنيست إسرائيلي سابق اسمه «يشعياهو بن فورت» وكنا طالعناها في «يديعوت أحرونوت» في يوليو ١٩٧٢٢. وهي ليست رأيا شخصيا لقائلها، بقدر ما هي موجِزة للسياسة الإسرائيلية في الموضوع. وبقدر ما تلخص فلسفة الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي الذي يعتبر التطبيق العملي للفكر الاستراتيجي الصهيوني، الذي ينتهج فلسفة «معلنة» نتناساها، أساسها الشعار الصهيوني القديم «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، والذي تم ترجمته طوال عقود عبر سياستي الاستيطان والتهجير القسري (الترانسفير). وهو الأمر الذي لم يعد محل جدل بعد أصبحت حكاياه موضوعا للعديد من الكتب والدراسات التي أصدرها «المؤرخون الجدد» من الأكاديميين اليهود المنصفين.

على الرغم من الحديث «المخدر» عن السلام، والذي لم يتوقف قط منذ قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ والقاضي بالعودة إلى حدود ١٩٦٧، والذي اعتبره الجميع بعد ذلك أساسا «مقبولا» للحل، لم تتوقف المشاريع الاسرائيلية «المعلنة رسميا» للاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد الخامس من يونيو ١٩٦٧ مما يمثل إجهاضا واقعيا لكل احتمالات «حل الدولتين» المبني على هذا القرار.

لائحة تلك المشاريع «الرسمية» طويلة. ومنها على سبيل المثال:

ــ مشروع آلون (١٩٦٨)، والذي يعتمد على استراتيجية تعمل على تضييق مجال الخيارات المتاحة للحل / التسوية، بشأن السيادة على الأرض المحتلة (بعد ١٩٦٧) وذلك عبر تكريس الأمر الواقع بتنفيذ عملية استيطان واسعة على طول غور الأردن بطول ١١٥ كم وعرض ٢٠ كم.

ــ خطة «جوش أمونيم»، والتي أسست كمنظمة رسمية عام ١٩٧٤ تهدف «رسميا» إلى الاستيطان في المناطق التي لم يأت ذكرها في المشاريع الاستيطانية الرسمية، وذلك، حسب ما تقول أهدافها المعلنة: «للسيطرة على سلسلة جبال الضفة الغربية.. والمحافظة على عمق البلاد من نهر الأردن وحتى السهل الساحلي».

ــ مشروع شارون (١٩٨٢)، والذي ترأس اللجنة الوزارية العليا «للاستيطان». ويهدف إلى إقامة قطاع استيطاني لفصل شمال الضفة عن جنوبها (!) بالإضافة إلى مجموعة من المشاريع الاستيطانية تشكل كتلا تقطع الخط الأخضر بدءا من الشمال (أم الفحم) وحتى الجنوب (اللطرون) مشكلة، على الأرض «خطا حدوديا» جديدا. 

ــ مشروع متتياهو دروبلس (رئيس القسم الاستيطاني بالوكالة اليهودية عام ١٩٨٣)، وتتمثل خطته في إقامة مستوطنات جديدة قرب كل مستوطنة، لتشكيل كتل استيطانية كبيرة تكون نواة لتكوين مدن. ويهدف المشروع إلى إسكان ٨٠٠ ألف يهودي في تلك البؤر الجديدة.

ــ مشروع يوسي ألفر: ويقضي مشروعه بأن يتم تجميع المستوطنات بدءا من منطقة قلقيلية، وحتى منطقة «غوش عتصيون» بشريط يصل أحيانا إلى ١٥ كم عمقا (منطقة غرب نابلس ورام الله بالإضافة إلى القدس).

ــ مشروع حزب الطريق الثالث: ويهدف إلى حصر التجمعات العربية في كتل مفصولة عن بعضها البعض، مع وضع مناطق الغور واللطرون والقدس وجنوب غربي نابلس وجنين، بالإضافة إلى مناطق عازلة على طول الحدود للقرى الفلسطينية الواقعة على الخط الأخضر تحت السيطرة الإسرائيلية.

ــ مشروع نتنياهو (١٩٩٧) ويتلخص في تفكيك جزء من المستوطنات، وإعطاء الفلسطينيين ٤٥ ــ ٥٠ ٪ من أراضي «يهودا والسامرة» ولكن «دون أن يمس ذلك بالمناطق الحيوية المهمة» (!) وكذلك بمناطق الغور، وغوش عتصيون، والقدس الكبرى، وخط التماس، والمستوطنات التى تحددها خريطة «المصالح الأمنية التي يحددها الجيش»، وبالطبع مع عدم التنازل عن السيادة الكاملة على القدس. (هل رأيتم كرما أكثر من ذلك؟!)

أيا ما كانت المشاريع الصهيونية «الرسمية» التي أخذت طريقها على الأرض تهويدا وتمزيقا للأرض المحتلة التى من المفترض أن تكون مكانا للدولة الفلسطينية «القابلة للحياة» التى يتحدثون عنها، فقد كان الأمر على الدوام محل اعتراض من كل من يرى أن ذلك التوسع الاستيطاني من شأنه «واقعيا» أن يجهض أي احتمال لحل سلمي للصراع العربي الإسرائيلي يقوم على حل الدولتين. ولمنطقية حجج المعترضين، فقد طالت قائمتهم على مدى السنوات الماضية لتشمل، إلى جانب السياسيين الغربيين الكثيرين من الليبراليين ومثقفي اليسار الإسرائيلي. ثم كان أن أصبح الأمر موضوعا لمشروع قرار أمام مجلس الأمن، طاله ما كان من ارتباك في الموقف المصري، سرعان ما أصبح «القصة الأولى» في هذه الصحيفة أو تلك. ثم كان أن أصبح سطرا مهما في التحليلات السياسية للمهتمين بما طرأ من «تغيير» على خرائط العلاقات والصراعات في منطقتنا تلك..

***

في تفاصيل القصة، وفى ما ذكرته الصحافة العالمية «والإسرائيلية»، ما لا أحب أن أستخدم تعبيراته أو توصيفاته. ولكن أيا ما كان القائلون، أو ما قالوه تبقى الحقائق «المجردة»، ويبقى أن فسيفساء المشهد؛ أي مشهد لا تكتمل إلا بوضع أجزاء الصورة بجوار بعضها. وهي في حالتنا تلك تتمثل في «الحقائق» التالية:

١ـ أن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة بعد ١٩٦٧ من شأنه (واقعيا) أن ينهي أي احتمالات لقيام دولة فلسطينية في المستقبل (حل الدولتين)، مما يترك المشكلة على حالها؛ مصدرا أوليا لعدم الاستقرار في المنطقة.

٢ـ أن جمهورية مصر «العربية» هي الدولة «العربية» الوحيدة العضو في مجلس الأمن في تلك الدورة (تنتهي عضويتها في ٢٠١٧٧)

٣ـ أن قرارا يدين توسع اسرائيل في بناء المستوطنات في الأرض العربية المحتلة، ويعتبر أن بناء تلك المستوطنات «غير شرعي» كان مطروحا أمام مجلس الأمن، وكان من المفترض «رسميا» أن يجري التصويت عليه عصر الخميس ٢٢ ديسمبر، وبالتحديد في الساعة الثالثة عصرا بتوقيت نيويورك / العاشرة مساء بتوقيت القاهرة، إلا أن مصر فاجأت الجميع بطلب إرجاء التصويت ، ثم بسحب مشروع القرار «المعروض».

٤ـ أنه قد بات معلوما أن دونالد ترامب الذي كان واضحا في مطالبته إدارة أوباما باستخدام الفيتو ضد القرار، (مما يعني أن هذا ما كان سيفعله حين يجري تأجيل التصويت لما بعد توليه المسئولية في العشرين من الشهر القادم)، اتصل بالرئيس السيسي مساء الخميس ٢٢٢ ديسمبر (صباح الخميس بتوقيت نيويورك) ليطلب من مصر أن تسحب مشروع القرار (كما قالت المصادر الأمريكية)، مما يعني إرجاء التصويت عليه. وهو الأمر الذي بدا أن مصر قد استجابت له بالفعل حيث اتفق الرئيسان على أهمية «إتاحة الفرصة للإدارة الامريكية الجديدة …» كما جاء في البيان الرسمي للرئاسة المصرية.

٥ـ أن موقعة القرار / التصويت «الكاشفة» انتهت فعليا إلى أن دولا «غير عربية» هي التي طلبت التصويت على القرار، بعد أن كانت مصر قد طلبت إرجاء التصويت عليه.

٦ـ أن التصويت على القرار «غير المسبوق» أصاب الإسرائيليين «بمتلازمة» ردود الأفعال الهستيرية. إذ بعد ساعات فقط من تمريره بعد رفض إدارة أوباما طلب ترامب إستخدام الفيتو لإعاقته أمر نتنياهو باستدعاء سفرائه في نيوزيلاندا والسنغال، وبقطع المساعدات عن البلد الأفريقي المسلم.

٧ـ أن بين المسئولين الرسميين المصريين الذين حاولوا تبرير ما جرى من يَفترض للأسف أن ليس هناك بيننا من يعرف «آلية» العمل داخل الأمم المتحدة، «وإجراءات» التصويت في مجلس الأمن. فضلا عن أنه يَفترض ــ للأسف أيضا ــ أن ليس بيننا من يقرأ الصحف الأمريكية والإسرائيلية التي نشرت «القصة كاملة». 

في ضوء «ثقافة حاكمة»، نفهم.. ونتفهم أن في المؤسسة الدبلوماسية المصرية «العريقة» من لا يملك في النهاية إلا أن ينفذ «التعليمات»، ولكن قليلا من الاحترام لعقول السامعين قد يكون مفيدا.

*** 

وبعد..

فربما تكمن المفارقة في ما ثبت من أن إدارة أوباما (الذي يكرهه البعض ــ في عالمنا العربي المنكوب بمستبديه ــ لدفاعه عن الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان) هي التي سمحت بتمرير القرار «غير المسبوق»، وأن دونالد ترامب (الذي احتفى بعضنا بقدومه) هو الذي حاول إيقافه، بل وطلب ذلك من مصر (الدولة العربية الوحيدة العضو في مجلس الأمن). وهو الأمر الذي حدث بالفعل.. للأسف

ثم قد تكمن المفارقة أيضا أن هذا كله جرى في الثالث والعشرين من ديسمبر، اليوم الذي من المفترض أن مصر تحتفل فيه بذكرى انتصارها على العدوان الثلاثي الذي كانت إسرائيل (باجتياحها سيناء) حجر الزاوية فيه.

وقديما تعلمنا، أنه مهما كانت التبريرات.. فهناك دائما «ما لا يصح تبريره».

 

تعليقات الفيسبوك