ناهد نصر
ناهد نصر

العالم عمارة صغيرة يا مارشال

الأحد 25-09-2016 | PM 02:27

في العام 1962 صك الكندي مارشال ماكلوهان صاحب النظريات في مجال الاتصال الجماهيري مصطلح القرية العالمية في كتابه "الحرب والسلام في القرية العالمية" ومنذ ذلك الحين والناس يرددون أن العالم قرية صغيرة في كل مناسبة وبلا مناسبة. ولا أدري لماذا اختار ماكلوهان القرية لوصف حال شعوب العالم.

فما نعرفه عن القرية خاصة حين تكون صغيرة أنه لا أسرار هناك على الإطلاق، فكل فرد يعرف ما يدور في بيوت الجيران وجيران الجيران، بينما وضعنا البائس أقرب إلى سكان عمارة في مدينة يتعرضون لنفس الفواتير والمحتوى التلفزيوني المضلل، تضحكهم نفس النكات وتجمعهم نفس المخاوف من اللصوص وانقطاع المياه وخطف الأطفال والاحتباس الحراري لكنهم لا يعرفون بعضهم البعض، ولا أنهم يشبهون بعضهم البعض. فكل واحد منهم (برنس في نفسه).

هذا بالتحديد هو الانطباع الذي سيطر علي خلال دردشات منفصلة مع ثلاثة من الشخصيات الثقافية والفنية البارزة في بلادهم، فهذا كاتب مخضرم وأستاذ مسرحي أفريقي قضى حياته في تأليف الكتب وتدريس الدراما ونال أرفع الجوائز داخل بلاده وخارجها، وذاك بروفيسور بارز من آسيا وهو مخرج أيضًا دارت أعماله المسرحية في أقطار العالم، أما تلك فنجمة مسرحية وتلفزيونية أفريقية تكتب وتخرج وتمثل وتؤمن أن الفن وسيلة للتغيير الاجتماعي وقد منحتها بلادها مؤخرًا جائزة رفيعة عن مجمل إنجازاتها.

والثلاثة يزورون مصر للمرة الأولى تقريبًا إذ زارها أحدهم لأيام قليلة قبل عامين. وقد هالني ما دار خلال حواراتنا القصيرة، مثلا سمعت من الكاتب الكبير أنه في زيارته السابقة لمصر اندهش جدا من اكتشاف أن مصر بها مسيحيون وقد كان يظن غير ذلك. قال لي لقد فوجئت أنكم تعرفون الكريسماس.

أما الفنانة المشهورة فقد همست في أذني قائلة "أول مرة اعرف ان الستات عندكم شكلهم عادي كده زينا" فالسيدة عاشت كل حياتها تعتقد أن النساء في بلادنا كلهم يرتدون الحجاب ويقرن في بيوتهن.

وقد حاولت خلال الحديث تصور ما دار في خيالها عندما دعيت لزيارة مصر، رجال القاعدة في الشوارع ونساء قاعدات في البيوت. قلت لها لدي فضول قاتل لمعرفة كيف تروننا فأجابت "معلش ماتزعليش مني.. القاعدة وتنظيم الشباب والذي منه هو كل ما اتصوره عندما افكر في شمال أفريقيا".

الأدهى من هذا وذاك أنه لا أحد من محاوري كان يتخيل أن أحدًا في مصر يعرفه، ليس بحكم التواضع بل على سبيل أن انشغالنا بصناعة الإرهاب كما ينبغي أن يكون عليه المسلم الجيد لا يمنحنا الوقت الكافي للانشغال بأمور أخرى كالقراءة مثلًا، بل نحن غير مشغولين أصلا ببلادهم. وقد قالتها لي الفنانة "كلنا افارقة لكنكم تعتبرون انفسكم عربًا فقط.. عادي يعني" فهي مؤمنة أننا لا نريد معرفتهم كما لا يريدون هم.

لكن لحظة الذروة أتت عندما انتقل الحوار إلى الأوضاع في بلدانهم. سألت الكاتب عن مساحة حرية التعبير المتاحة للمسرحيين في بلاده فقال "كنا في السابق نعاني من حكم الجيش وأنت لا تعرفين ما هو حكم الجيش".. (لا ماعنديش فكرة) .. "لم تكن لدينا رقابة لكنهم كانوا يخطفونك بعد أن تنتهي من عملك وتعرضه. أما الآن فالدولة لم تعد تهتم لأنها تعرف أن الشعب الجائع لا يذهب إلى المسرح.

(سمعت الكلام ده فين قبل كده؟)! أما الفنانة فحكت لي عن كيف تعاني النساء في بلادها من نظرة المجتمع المتدنية لمن تعملن بالفن. "الفنانة في دماغ الناس يعني سكر وعربدة وسهر وعلاقات.. مع ان في فنانات محافظات اكتر من المجتمع نفسه" .. (أيوة يا حبيبتي)! سألت المخرج من الدولة الآسيوية عن أحوال القمع السياسي في بلاده وإخراس المعارضة قال محاولًا أن يبدو حكيمًا "يا بنتي مافيش حرية مطلقة، يعني أنا مثلا لا اقبل ابدًا أن أخرج عملًا يشجع الناس على إدمان المخدرات" صح جدًا.. بس مين جاب سيرة المخدرات؟! ! طيب هل يقرأ الشباب والأطفال عندكم؟ قال أحدهم "كان زمان.. والقلة القليلة التي تقرأ تفضل كتب الدين وكيف تصبح مليونيرًا بدون معلم".

وحدثني آخر عن أن الشباب في بلاده صاروا يحبون الأفلام الأمريكية والبلاي ستيشن ويقضون معها أياماً وليالي "حتى أن تراثنا الفني الممتد لآلاف السنين يكاد ينقرض تماما كما انقرض المسرح الإغريقي والمسرح الهندي". هل شعرت مثلي بلحظة الذروة! حين تسمع كلامًا تعرفه جيدا لأنك تعيشه لكن لا أنت ولا من يتحدث إليك يعرف أنكما تعيشان في نفس العمارة وتدفعان نفس الفواتير وكلاكما يخشى اللصوص.

صدقني يجعلك الحوار أكثر تفاؤلا وبأنك كما قال جون لينون "لست وحدك" لكنه أيضًا يحزنك لأنك تعلم أنك في الحقيقة وحدك تمامًا كمحدثك، لا تعرف عنه شيء كما لا يعرف عنك هو شيء لأن كل واحد برنس في بلده. لعل مالك العمارة غصبًا واقتدارًا سعيد بالسيطرة على سكان معزولين وسعداء بعزلتهم مكتفين بما يسربه هو لهم من معلومات وأخبار عن الجيران وجيران الجيران.

ربما لو تعلم السكان التواصل مع بعضهم البعض لاحترق مالك العمارة واختفى إلى الأبد. إنه يعلم أننا لا نعلم أننا نعلم. فالمعرفة هي الشمس التي ستحرقه وهو لذلك يحجبها بحرص وعنف وحرب وكذب.

 

تعليقات الفيسبوك