ناهد نصر
ناهد نصر

عاملة نفسي نايمة

الأربعاء 14-09-2016 | AM 10:28

بينما كانت إحدى دور العرض المعنية بالأفلام غير التجارية في قلب القاهرة تعرض فيلمًا وثائقيًا يستعرض أشكال معاناة الشباب العربي من الفنانين المستقلين وكيف قادتهم للمشاركة بقوة في ثورات الربيع العربي مطالبين بمساحة للتنفس وسط القوالب الخانقة، كانت شاشات الفضائيات تروج بكثافة لأغنية جديدة تحتفي فيها فتاة بتمكنها من اصطياد عريس بالحيلة والدلال. وتكمن المفارقة في أن نجمة الأغنية هي واحدة من أبناء تيار الفن المستقل وأن المنتج هو واحد من أبرز صناع نجوم الأغنية التجارية في مصر والعالم العربي منذ الثمانينيات. فكأنها علامة على ما يعتمر قلوب هذا الجيل من يأس في التغيير.

أما الوثائقي فهو "ياللا اندرجراواند" لمخرجه فريد إسلام الذي عرض في سينما زاوية بوسط القاهرة وشاشات عربية أخرى هذا الشهر، ويستعرض مسيرة مجموعة من الفرق المستقلة في مصر والأردن ولبنان وفلسطين في الفترة من 2009 إلى 2013 أي على مدى خمس سنوات شهدت هزة قوية في منطقتنا تقدم صفوفها هؤلاء الشباب وأقرانهم مطالبين بالحرية وبحقهم في التعبير عن صوتهم المحبوس ما بين سطوة المجتمع والدين والتضييق السياسي وسيطرة السوق الذي يحصر المبدعين كما باقي البشر في قوالب لا ترحم. وأما نجمة الأغنية الجديدة فهي نغم صالح التي وإن لم تظهر في الفيلم فهي تنتمي لهذا الجيل من الفنانين المستقلين الذين اختاروا تحدي سطوة السائد حتى ولو بإمكانيات محدودة ماديًا وفنيًا، إذ من الظلم الحكم عليهم كحركة ناضجة فنيًا بقدر كونهم تعبيرًا عن موقف جيل يرفض الرضوخ للقوالب التي لا تمثله بأي حال.

ونغم صالح شابة في العقد الثاني نشأت في أسرة تنتمي لعالم الفن الذي يحاول أن يجد له موقعًا وسط ضجيج السوق، فوالدها الدكتور صالح سعد قضى حياة عامرة بدعم المسرحيين الشبان في أقاليم مصر حتى آخر لحظة في حياته حين قضى نحبه متأثرًا بحريق مميت شب في مسرح قصر ثقافة بني سويف بصعيد مصر في مثل هذا الشهر من العام 2005  بينما كان ضمن لجنة تحكيم لعرض مسرحي لفرقة شابة. ومريم صالح شقيقتها الكبرى واحدة من المطربات البارزات في عالم الفن المستقل. وقد ذاع صيت نغم في الأوساط الثقافية من خلال أدائها أغنيات الشيخ إمام في حفل تأبين والدها ثم أنها سارت على الدرب طوال السنوات التي تلت ذلك، وكانت لها مجموعة من الأغنيات الحماسية الشهيرة وكذلك المشاركات الجماعية خلال ثورة يناير أشهرها أغنية احتجاجية بعنوان "سرقوا الدستور" اعتراضًا على الانقلاب الدستوري خلال حكم الإخوان، كما أسست فرقة مستقلة تحمل اسمها بدأت من خلالها مشروعًا غنائيًا يعني بإحياء الفلكلور المصري. وعندما سئلت المطربة الشابة في العام 2013 في إحدى وسائل الإعلام عن أحلامها أجابت بثقة وإصرار "أحلم أن يصل مشروعي لإحياء الفلكلور المصري لكل الناس، تلك رسالتي. كما أحلم أن أنشئ مركزًا لنشر ثقافة المسرح المستقل ودعم المسرحيين المستقلين في كل مكان حتى أكمل مشوار والدي" وهي أحلام تشابهت كثيرًا مع أحلام أقرانها في المشاهد الأخيرة بفيلم "ياللا أندرجراوند" التي تم تصويرها  في نفس العام. جميعهم حلموا بالاستمرار رغم كل ما آل إليه مصير الربيع العربي، وبمواصلة ما بدأوه.

ثلاثة أعوام فقط تفصلنا عن المشاهد الأخيرة من الفيلم جرت فيها الكثير من الأمور التي تحتاج لعشرات الأفلام لتوثيقها قبل أن تمتلئ شاشات الفضائيات العربية بأغنية لنغم صالح من إنتاج نصر محروس الذي قاد مسيرة اكتشاف العشرات ممن صاروا حاليًا نجوم الصف الأول في سوق الأغنية العربية المقولبة التي لا تعبر سوى عن السطح مبتعدة بتعمد عن كل ما يعتمر قلوب وعقول ملايين الشبان في هذا الجيل من غليان. لتظهر نغم التي الهبت مشاعر الجمهور خلال الثورة وما بعدها بعشرات الأغنيات التي لا تنتمي لعالم القوالب، في أغنية "عاملة نفسي نايمة" كفتاة مراهقة تحكي لصديقاتها بدلال وخجل مصطنع عن حيلها الناجحة في اصطياد عريس بكتم المشاعر والتظاهر بالتجاهل كما ينبغي أن تكون عليه الفتاة المؤدبة في مجتمع محافظ حتى تدخل القفص بأمان وبرضا المجتمع والوالدين وحسد الصديقات.

لا يمكننا محاكمة نغم أو أي من أقرانها على خياراتهم المدفوعين إليها. وفي الوقت نفسه لا يمكننا تجاهل أن الكثير من تلك الخيارات تعبر عن بوادر استسلام جيل كامل لليأس من التغيير، فالكثير من أشكال التعبير الشابة التي انتعشت خلال السنوات الماضية ووصلت إلى ذروة نشاطها وأملها خلال الربيع العربي إما تحللت من تلقاء نفسها، أو اختار أفرادها مغادرة البلاد مع أول فرصة متاحة أو توقفوا عن محاولات التجريب ومقاومة السائد خوفًا من البطش والتكميم أو لأن أملهم في البقاء والإستمرار تبخر، ومنهم من ينتظر. ورغم بعض المحاولات الجادة هنا وهناك لدعم الفنانين المستقلين في أنحاء العالم العربي إلا أنها تظل محكومة بفضاء عام يحكمه الإرهاب بكل أشكاله، إرهاب الأنظمة والسوق والقوالب ذلك الذي يعلم في قرارة نفسه أن محاولات التدجين قد تنجح لفترة من الوقت لكنها تظل ابنة الماضي فيعمل بكامل طاقته على تشويه المستقبل. 

 

تعليقات الفيسبوك