فهمي هويدي
فهمي هويدي

إذ يصبح تأميم المساجد حلا

الخميس 21-07-2016 | PM 06:51

اكتشف وزير الأوقاف أن أئمة المساجد في مصر لا يجيدون الخطابة، وأنهم بالكاد يجيدون القراءة. ولأنه حريص على استمرار دورهم فقد استلهم فكرة عبقرية وجد فيها الحل السحري للمشكلة، تمثلت في كتابة خطبة بليغة ومحكمة توزع على الجميع. وأدرك بذلك أنه يضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد. إذ تصور أنها من ناحية تستر عجز الخطباء الذي افترضه. ومن ناحية ثانية تنور الناس بالفكر المعتدل الذي يحصنهم ضد التطرف. ومن ناحية ثالثة فإنها تطمئن الأجهزة الأمنية على أن المساجد صارت تحت السيطرة وأنه قام بواجبه في الترشيد وضبط المنابر على بوصلة السلطة و«قِبلتها». وثمة «عصفور» رابع يتعلق بإشباع تخصص الوزير الذي هو في الأصل أستاذ للبلاغة، وربما أتاحت له الخطب المكتوبة أن يستعرض فصاحته وموهبته.

في تبرير ذلك ومحاولة إقناعنا بصواب وحكمة قراره، قال الوزير الدكتور محمد مختار جمعة أن ما أقدم عليه ليس فيه تقييد للخطباء ولا حجر عليهم، وليس فيه أي مخالفة شرعية. وأضاف في تصريحات صحفية أن هدفه بريء في ذلك، وإنه ما أراد إلا الإصلاح والارتقاء بمستوى خطب الجمعة، فضلا عن أن مسعاه ليست له أية دوافع سياسية.

بهذه التصريحات أبرأ الوزير ذمته، وتصور أنه اقنع الأئمة بمبرراته، كما أنه اقنع الرأي العام بصواب قراره وبعد نظره. وما أدهشني ليس فقط أن يقول الوزير هذا الكلام، وأن يتصور أن ما قاله يمكن أن ينطلي على أحد. حيث لم أتوقع أن يبلغ به سوء الظن هذه الدرجة، فيفترض فى الأئمة السذاجة ويفترض فينا الغباء والبلاهة، بحيث يمكن أن نصدق أن ما جرى ليس قرارا بتأميم المساجد وإخضاعها، ليس فقط إلى سلطان الدولة ولكن لإدارتها بالكامل لحساب جهاز أمن الدولة.

الفكرة التى تبناها الوزير الهمام ليست من ابتكاره ولكن لها أصلين أحدهما بريء والآخر غير بريء. في الأصل البريء أن خبرة المجتمعات الإسلامية شهدت محاولات مماثلة إما لتيسير المهمة على الخطباء والأئمة أو لتوفير خطب نموذجية لأئمة مساجد الأرياف الذين قد لا يتوفر لهم حظ كاف من التمكن من الفقه وفنون الدعوة. في هذا الإطار ظهر ما سمى بدواوين خطب الجمعة والعيدين واشتهر ديوان خطب ابن نباتة خطيب حلب (عبد الرحيم محمد بن نباتة) الذي اشتهر بفصاحته وقوة بيانه. وظهر في بلاد الشام قبل أكثر من ألف عام حين نشبت حرب الحمدانيين ضد الروم. فلجأ إلى كتابة وإلقاء الخطب التي تحث على الجهاد. وقد جمعت تلك الخطب في كتاب حمل اسمه. كما عرف ديوان خطب الشيخ محمود خطاب شيخ الجمعية الشرعية وديوان خطب الدكتور أحمد الحوفي أستاذ الأدب بكلية دار العلوم وديوان خطب الجمعة وفقا لتعاليم الإسلام للشيخ الدكتور محمد سالم محيسن... إلخ.

القاسم المشترك بين تلك الدواوين تمثل في أنها صدرت تطوعا من جانب بعض العلماء والباحثين، ثم إنها لم تكن ملزمة لأحد، حيث كانت اختيارية وظلت توظف للاسترشاد وخاضعة لاختيار الخطباء وانتقائهم.

الأصل غير البريء كانت دوافعه سياسية وليست دعوية. وبرز ذلك الاتجاه بصورة قوية أثناء حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك. ذلك أن تنامي ظاهرة التطرف والعنف في أواخر حكم السادات، دفع الأجهزة الأمنية إلى محاولة التحكم في دور المساجد. وتمثلت الخطوة الأولى فى ذلك الاتجاه فى التدقيق في الخطباء واشتراط حصولهم على تصاريح بالخطابة من لجنة خاصة ضمت بعض المسئولين فى وزارة الأوقاف وممثلين عن جهاز أمن الدولة. وكان القرار الأخير في إصدار التصريحات بيد ضباط أمن الدولة. أذكر فى هذا الصدد أن الدكتور محمود الجليند أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم كان يخطب الجمعة في مسجد قريته بمحافظة البحيرة، وحين تقرر اشتراط حصول الخطيب على تصريح الوزارة، فإنه وجه رسالة بذلك إلى وزير الأوقاف آن ذاك الذي كان زميلا له. فإن الوزير تحرج من الطلب فبعث إليه بالتصريح في مظروف مغلق مع بطاقة باسمه عليها تأشيرة للوزير قال فيها: أرجو عدم استعماله. تكرر ذلك مع الشيخ جمال قطب الذي كان رئيسا للجنة الفتوى بالأزهر وأحد الذين يجيزون التصاريح للائمة، وكان في الوقت ذاته خطيبا لمسجد مصطفى محمود بحي المهندسين. ذلك أنه حين ترك منصبه وتفرغ للدعوة والبحث، فإن اللجنة رفضت إعطاءه تصريحا بالخطابة لأنه لم يكن مرضيا عنه.

ليس سرا أن الاعتبار الأمني صار العنصر الأساسي فى كل الإجراءات التي اتخذت لممارسة أي نشاط في المساجد حتى صار الاعتكاف مشروطا بإبراز بطاقة الرقم القومي. كما أنه وراء اشتراط الحصول على تصريح للخطابة. وقد وجدوا أن ذلك لم يكن كافيا لأن الأجهزة الأمنية لم تكتف بتوجيه الخطباء للحديث في موضوعات بذاتها، ومن ثم ظهرت الفكرة العبقرية التي تبناها وزير الأوقاف ودعت إلى إلزام الأئمة بخطب مكتوبة سلفا. وذلك لكي لا يتم التحكم في أفكارهم فقط ولكن أيضا في الصيغة التي يعبرون بها عن تلك الأفكار. ولست أشك في أن الخطب سيكتبها لغويون فصحاء ربما كان في مقدمتهم الوزير أستاذ البلاغة، لكننا سنكون واهمين إذا تصورنا أن ممثلي الأجهزة الأمنية لن يتولوا إجازتها وربما تنقيحها.

لا أعرف ما إذا كان ذلك يندرج ضمن تجديد الخطاب الديني أم لا، لكن الذي أثق فيه أن الخطب المكتوبة ستكون أكبر هدية يقدمها الوزير الهمام لجماعات التطرف والعنف، لأن ذلك سيجعل الشباب يصمّون آذانهم عن الخطب الحكومية والأمنية وسيبحثون عن بديل آخر متحرر من بصمات السلطة وتوجهاتها. لذلك لن استبعد أن يتلقى الوزير قريبا برقية من قادة «داعش» تعبر عن امتنانهم يقولون له فيها «نشكركم على حسن تعاونكم».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلا عن موقع الشروق

تعليقات الفيسبوك