كمال رمزي
كمال رمزي

حار جاف.. مصري

الثلاثاء 26-04-2016 | PM 02:14

في ظهيرة يوم قائظ، تتزاحم السيارات البطيئة، تحت أشعة الشمس الحارقة. تتزايد كثافة الإحساس بالاختناق عند الجميع. ضيق يعلو وجوه السابلة.. المنظر يوحى ببداية اندلاع مشاجرات..

وسط تلك الأجواء المتوترة، يلتفت البعض إلى عربة أجرة، بداخلها على المقعد الخلفي، تجلس فتاة بفستان الزفاف الأبيض، بجانبها رجل عجوز، فورا، ينقلب الحال. تنفرج الأسارير المتجهمة. البهجة تتسلل سريعا للوجوه. بنات وأولاد يلوحون للعروس. كلاكسات السيارات تطلق نغمات التحية المتداولة. ابتسامة عريضة تضيء ملامح العروس، خاصة حين تسمع أمنيات طيبة.

هذا المشهد القاهري تماما، يحققه مخرجنا الشاب، المتمكن في أدواته، صاحب الحس الإنساني، شريف البنداري، في فيلمه الذي بدا خير افتتاح لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة، في دورته الــ«18».

«حار جاف صيفا»، أقرب للآهة المصرية الصادقة النابعة من القلب والعقل، يمتزج فيها الألم بالأمل، الغضب بالتسامح، العناء بالقدرة على الصمود، الرضا بما هو خارج عن السيطرة، الإيمان العميق بإمكانية الإنقاذ من المصائر الفاجعة..

هذه كلها، من المعالم الجوهرية للشخصية المصرية، يعبر عنها، ببساطة وبلاغة، الفيلم المعتمد على طاقات إبداعية ذات شأن كاتبة السيناريو، نورا الشيخ، المتفهمة لأعمال أبطالها، بضعفهم وقوتهم.. المصور الجديد، صاحب العين اليقظة، المتسعة الأفق، فيكتور كيردي.. المونتير، عماد ماهر، بنعومة قطعاته ووصلاته، حتى إن الفيلم يبدو كأنه يتنفس الحياة، بسلاسة.. ثم، من قبل ومن بعد.. شريف البنداري.

يبدأ الفيلم صباحا، الرجل العجوز، عم شوقي، بأداء خلاب من محمد فريد، ينشر الغسيل على حبال شرفة شقته المتواضعة في بيت قديم. سرواله يقع.. على صوت تنبيهات ابنه الذي لن نراه، يستكمل ارتداء ملابسه البسيطة، ولا يفوته ــ حسب التوجيهات ــ أن يحمل الأشعة والتقارير الصحية كافة، لعرضها على طبيب الأورام الألماني الزائر..الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، من أهم إيجابيات الفيلم، تمنحه مذاق الحياة.

زجاجة مياه مثلجة، يحملها عم شوقي بإعزاز، يبلل بجرعات صغيرة منها حلقه الجاف في هذا النهار الحار.. السروال، يجده حين يغادر باب البيت، يلتقطه من الأرض، يضعه في كيس الأشعة والتقارير.. لاحقا، في عيادة الطبيب، يسقط السروال. ينشغل شوقي في سحب السروال، بقدمه، بينما يعرب الخبير الألماني عن دهشته من بقاء العجوز على قيد الحياة، حتى الآن.

يصرح بأن الرجل سيغادر الدنيا، خلال فترة وجيزة.. أما كيس الأشعة، فإنه سيصبح أحد أبطال الفيلم! في سيارة التاكسي، قبل الذهاب للطبيب، تستأذن الفتاة المتعجلة، دعاء «ناهد السباعي»، في الركوب بجانب عم شوقي، ومعها صديقتها لإيصالها في الطريق، خاصة أنها تحمل الكثير من مستلزمات الفرح.. تنزل من العربة، حاملة معها لفافاتها، بما في ذلك كيس الأشعة والتقارير.. يصبح لزاما على عم شوقي البحث عنها.. بعزيمة من حديد، ينتقل العجوز المنهك، من صالون تجميل إلى شقة تأجير فساتين الزفاف، إلى أن يعثر على مبتغاه.. لا يفوت الفيلم إلقاء الضوء على جانب من حياة المصريين، وقيمهم، في الحاضر.. نساء يعملن، بلا كلل، هنا وهناك.. دعاء، الشعبية، تتحايل على عريسها، عن طريق المحمول، من أجل السماح لها بإظهار خصلة من شعرها، كى تظهر بها في صورة الزفاف.

محمد فريد، ممثل يتمتع بحضور محبب، ظهر في عشرات الأفلام في أدوار ذات طابع كوميدي.. لكن، في هذه المرة يختلف تماما، ليس بسبب طبيعة دوره كرجل استفحل المرض بداخله وأسقط شعر رأسه وذقنه وحاجبيه، لكن لأنه يعايش الحالة، بحركته، لفتاته، صوته، روحه كلها.. إلا أن ثمة لقطة أو أكثر، ترتفع به، ويرتفع بها، إلى درجة تستحق الإشادة والتأمل. بناء على إلحاح «دعاء»، يذهب معها إلى استديو التصوير، انتظارا لعريسها الذي تأخر لأنه يحضر أسرته من طنطا.. مع مرور الوقت يقترح المصور أخذ لقطات لعم شوقي في وضع العريس، ثم، حين يأتي المتأخر يصوره منفردا، وعن طريق «الفوتومونتاج» يضع صورة العريس مكان صورة العجوز.. أثناء التصوير، أكثر من مرة، تلتمع عيون المريض، للحظات، بألق عشق الحياة، التمسك بتلابيبها، الرجاء بالبقاء فيها.. إنها من أجمل مواقف الفيلم، خاصة تلك اللقطة الكبيرة لكفه النافرة العروق حين يضعها فوق كفها المترعة بالشباب.

«حار جاف صيفا»، الذي يدور في عدة ساعات، ينتقل، زمنيا، إلى ما بعد عام: «دعاء» حامل، عندها طفل يلعب، صورتها مع عريسها تزين المكان.. بينما عم شوقي، يجلس في شرفته، منتشيا بمذاق «الآيس كريم».. تتراجع الكاميرا للوراء، لنلمح صورته كعريس مع الفتاة الشعبية، فالواضح أن المصور، أو البنت، أو العريس، سمحوا له باستبقائها معه.. إنه فيلم جميل، موغل في مصريته.

 

تعليقات الفيسبوك