مصطفى النجار
مصطفى النجار

آن للفساد أن يمرح فى مصر

الجمعة 01-04-2016 | PM 03:53

في عام 2090 جلس هذا الشاب يتصفح هذه الحكاية الغريبة التى تتلخص فى أهل بلد شعروا بأن هناك من يسرق أقواتهم ويستنزف ثرواتهم ويبدد مواردهم فاتفقوا على أن يختاروا رجلا مؤتمنا من بينهم يكون حارسا لهذه الأموال وعينا لهم على ثرواتهم يذود عنها ويقطع يد السراق التى تمتد للنهش فيها، اجتهد الرجل وأخلص فى مهمته واستطاع حصر كل السارقين وتوثيق سرقاتهم وجرائمهم بالحجة والبرهان والدليل القاطع، ثم نادى الرجل المؤتمن على أهل البلدة أن هلموا لخبر جلل وحديث خطير، لقد سرقكم فلان وفلان، لقد ضاع من أموالكم كذا وكذا ولابد أن تستردوهم؛ فأطفالكم وفقراؤكم أولى وهذا حقهم. انتفض أهل البلدة وصرخوا غاضبين، لكن المفاجأة أن الصراخ الأعلى صوتا والأشد ثورة كان ضد الرجل المؤتمن حيث قال هؤلاء النفر من الصارخين: كيف تتجرأ وتتحدث عن السرقة التى تفشت بيننا؟ إنك تشوه صورة بلدتنا وتجعل التجار يخشون من المرور بأرضنا، أنت كاره لبلدتنا وعدو لها، لابد أن تدفع ثمن ما فعلت، سنخرجك من أرضنا ونوليك أدبارنا ونخلعك من مقام أجلسناك فيه! صرخ فيهم الرجل: يا قومى أنا أنذركم وأحذركم مما يفعله هؤلاء، لقد سرقوا كذا وكذا وسيستمرون فى نهبكم ما لم تتيقظوا من سكرتكم وغفلتكم، فقذفوه بالحجارة واحتفلوا وهم يشقون رأسه وتناولوا نخب الانتصار وحماية الوطن!

سأل الشاب جده هل عاصرت يا جدى تلك الأحداث ورأيت هؤلاء الناس؟ هل كانوا عقلاء مثلنا؟ هل هذه قصة حقيقية أم طرفة للتندر والسخرية؟ خفض الجد رأسه بحزن وقال بأسى وخجل ملأ عينيه: نعم يا ولدى لقد رأيت هذا بعينى وعاصرته لكننى لم أستطع فعل شىء، ومضت الأحداث وشقت طريقها لكتب التاريخ لتصلك الآن وتجعلك تسخر ممن عاشوا هذه اللحظات!

ربما تصف هذه الحكاية الرمزية الحدث الكبير الذى عاشته مصر خلال الأيام الماضية عقب عزل المستشار هشام جنينة من موقعه كرئيس لأكبر جهاز رقابى فى مصر؛ وهو الجهاز الذى تقول المادة 219 من الدستور المصرى (يتولى الجهاز المركزى للمحاسبات الرقابة على أموال الدولة، والأشخاص الاعتبارية العامة، والجهات الأخرى التى يحددها القانون، ومراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة والموازنات المستقلة، ومراجعة حساباتها الختامية)، ولم يستثن الدستور أى مؤسسة أو جهة من الرقابة ولم يجعل لأحدها قداسة فالكل سواء. يقول الفقيه الدستورى المعروف الدكتور محمد نور فرحات (إن قانون إعفاء رؤساء الهيئات الرقابية من مناصبهم، الذى صدر فى يوليو 2015 قبل انتخاب مجلس النواب، مخالف للدستور الذى اشترط حالات معينة لوضع تدابير عاجلة من قبل رئيس الجمهورية لمباشرة أعماله وحتى لو كان القانون دستوريا، وهذا غير صحيح، فقانون الجهاز المركزى للمحاسبات ينص على عدم قابلية رئيس الجهاز للعزل والإقالة قبل انتهاء مدته، وقانون الجهاز هو الأولى بالتطبيق، لأن النص القانونى الخاص يقيد النص القانونى العام. وأنا على ثقة أن فى مصر منارات للدفاع عن المشروعية و(جنينة) إذا توجه لمجلس الدولة لطلب إلغاء هذا القرار فسيحكم له المجلس بعودته فورا للأسباب التى ذكرتها، فالقرار باطل ومنعدم).

***

دفع جنينة ثمن موقفه الصلب الذى أصر فيه على إخضاع كل مؤسسات الدولة لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات بلا استثناء، خاض معارك ضد من رفضوا إعلان موازنة هيئاتهم ورواتبهم المتضخمة التى تتجاوز الحد الأقصى للأجور. رفض الخضوع لتهديدات الجهات التى ترى نفسها فوق القانون والدستور، ولم يبال بالحملة الإعلامية الممنهجة التى اشتعلت ضده عقب 3 يوليو 2013 لتصفه بالإخوانى المستتر وغيرها من التفاهات والقاذورات الاعلامية التى حاولت اغتيال الرجل معنويا والانتقام للفاسدين الذين تصدى لهم. انطلقت الأبواق الموجهة تنهش فى الرجل وأسرته، طالتهم افتراءات كاذبة وتهديدات مباشرة لكن الرجل لم يهن ولم يضعف وإنما ظل ثابتا على موقفه النبيل فى الدفاع عن أموال المصريين ضد النهب والفساد، كان من العجيب أن يقولوا للرجل والرأى العام (الجهاز المركزى للمحاسبات غير معنى بتحديد الفساد)!

تهمة جنينة هى كشف الفساد وتعريته، لا تحدثنى عن زلة لسان أو حتى رقم غير دقيق ــ وهذا لم يحدث ــ وتقنع نفسك أن هذا سبب إقالة جنينة، عشرات المسئولين أعلنوا أرقاما خيالية لا تمت للواقع بصلة ولم يحاسبهم أحد ولم يجيش الاعلام ضدهم لكن استهداف جنينة لم يكن مفاجئا عقب تصريحاته عن الفساد بل بدأ مبكرا حين أدرك هؤلاء أن الرجل لن يكون كومبارس كما يريدون له!

عزل جنينة من منصبه قبل انتهاء مدته التى لم يتبقَ عليها سوى شهور معدودة هو تنحية لمحارب صلب ضد الفساد وإعلان من الدولة عن انحيازاتها وتوجهاتها، لم يخسر جنينة وإنما ربح احترام وتقدير ملايين المصريين الذين يدركون حقيقة الأمور ويعرفون أن الرجل كان سيدفع ثمن موقفه النبيل ونضاله ضد الفساد.

عزل جنينة هو أحد أخطر الرسائل السياسية التى صدرت من السلطة حتى الآن، المردود النفسى الشعبى لعزل الرجل فى غاية الخطورة لأنه يشكك المواطن البسيط فى نية الدولة فى محاربة الفساد، لن يقتنع عاقل بمبررات عزله، ربح جنينة وخسر الآخرون !

نقلا عن صحيفة الشروق

 

تعليقات الفيسبوك